بعد وصول الاحتجاجات في مختلف مدن الجزائر ضد ترشح الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة ذروةً غير مسبوقة، يوم 8 آذار/ مارس 2019، قررت السلطات الجزائرية تقديم عطلة الربيع للجامعات من 21 آذار/ مارس إلى العاشر منه، وتمديدها حتى الرابع من نيسان/ أبريل؛ في سعي منها لاحتواء الاحتجاجات التي تستمر وتتسع للضغط على أحزاب النظام، من أجل التراجع عن ترشيح الرئيس الذي يرقد في مستشفى سويسري في حالة صحية حرجة، كما أكدت مصادر طبية[1].
منذ إعلان بوتفليقة ترشحه يوم 10 شباط/ فبراير 2019، في رسالة وجهها إلى الشعب، وكانت بمنزلة برنامج انتخابي، شهدت الجزائر احتجاجات عفوية، أخذت تنتظم بداية من 22 شباط/ فبراير 2019، بهدف الضغط على النظام لسحب ترشح الرئيس لتدهور متواصل في قدرته الجسدية على أداء مهماته، منذ أن أصيب بجلطة دماغية في عام 2013. مع ذلك، قرر النظام المضي قدمًا في ترشيح الرئيس، حيث قدم وزير النقل ومدير حملة الرئيس الانتخابية، عبد الغاني زعلان، أوراق الترشيح إلى المجلس الدستوري يوم 3 آذار/ مارس 2019، وذلك لعجز الرئيس عن تقديمها بنفسه، كما تنص اللوائح. ولم يفتّ في عضد المحتجين أو يقنعهم على ما يبدو وعود أطلقها الرئيس (أو أطلقت باسمه) لإجراء إصلاحات جوهرية أهمها[2]:
تنظيم ندوة وطنية شاملة مباشرة بعد الانتخابات الرئاسية لمناقشة وإعداد واعتماد إصلاحات واسعة، من شأنها إرساء أسس "النظام الجديد الإصلاحيّ للدّولة الوطنية الجزائرية".
تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة وفقًا للأجندة التي تعتمدها الندوة الوطنية لا يكون بوتفليقة مترشحًا فيها، وإعداد دستور جديد يكرس ميلاد جمهورية جديدة.
وضع سياسات عمومية عاجلة، كفيلة بإعادة التوزيع العادل للثروات الوطنية والقضاء على أوجه التهميش والإقصاء والفساد كافة.
اتخاذ إجراءات فورية وفعالة لجعل الشباب فاعلين في الحياة العامّة ومستفيدين من التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
مراجعة قانون الانتخابات مع التركيز على إنشاء آلية مستقلّة تتولى دون سواها تنظيم الانتخابات.
راهنت القوى المعارضة لترشح الرئيس، من خلال الاستمرار في الحركة الاحتجاجية، على إحداث شرخ داخل بنية النظام، ودفع المؤسسة العسكرية أو التحالف الرئاسي (جبهة التحرير، والتجمّع الوطني الديموقراطي، وتجمّع أمل الجزائر، والحركة الشعبية الجزائرية) إلى التخلّي عن ترشيح بوتفليقة واستبداله بشخصٍ آخر، يمكن أن يتوافر معه حد أدنى من ظروف المنافسة العادلة في الانتخابات على رئاسة البلاد. وقد أنعش التقرير الذي نقلته وكالة الأنباء الرسمية، مساء 22 شباط/ فبراير 2019، وعرضت فيه مطالب المحتجين الرافضين لعهدة رئاسية خامسة الآمال في إمكانية عدول النظام عن ترشيح بوتفليقة[3]، لكن ذلك سرعان ما تبدد عندما أعلنت قيادة الجيش ممثلةً في رئيس هيئة الأركان أحمد قايد صالح عن موقفها السلبي من الاحتجاجات. وبالمثل عبّرت قيادات جبهة التحرير الوطني (ممثلة بأمينها العام معاذ بوشارب) والتجمّع الوطني الديموقراطي (ممثلًا برئيس الحكومة أحمد أويحيى) عن رفضها الاحتجاجات، مؤكدة حق الرئيس في الترشح للانتخابات. وقد شكلّ هذا الموقف تحدّيًا للمُحتجين؛ ما دفعهم إلى تغيير شعارهم القاضي برفض الولاية الخامسة نحو مطالب أكثر جذرية متعلقة بنزاهة الانتخابات وهيئاتها والتخلص من نفوذ الأوليغاركيا الحاكمة فعلًا باسم بوتفليقة. فالإصرار على ترشيح الرئيس المسن والمريض، من دون تبرير مقنع، يدفع المواطن الجزائري إلى طرح مجموعة أسئلة عن الأسباب التي تدفع النظام للتمسك به، والقوى التي تقف وراءه، وشبكة المصالح التي تريد أن تستمر في حكم البلد من وراء الرئيس الذي بات واضحًا أنه عاجز عن قيادة البلاد.
عند وصول الرئيس بوتفليقة إلى الرئاسة عام 1999، كانت السلطة موزعة بين رئاسة الجمهورية والجيش بشقيه؛ قيادة الأركان والمخابرات، والإدارة العامة ممثلة في الحكومة، مع أفضلية واضحة لجهاز المخابرات، الذي كان يؤدي دورًا رئيسًا في صناعة الرؤساء ورؤساء الحكومات والوزراء. لكن بوتفليقة أعلن منذ مجيئه أنه يريد أن يكون "رئيسًا كاملًا وليس نصف رئيس"؛ ما دفعه إلى تركيز الكثير من السلطات في يديه. لقد أخضع بوتفليقة الجيش لمنصب الرئاسة، وهذا هو الأمر الإيجابي من منظور بناء مؤسسات الدولة، ولكنه من ناحية أخرى ركز الصلاحيات كليًّا في الرئاسة؛ ما أدى إلى مركزة كاملة للحكم إلى درجة منح القوة والنفوذ ليس فقط للرئيس بل لكل من يستخدم اسم الرئيس.
قام بوتفليقة في سنوات حكمه الأولى بإعادة تركيب جهاز الإدارة الحكومية بطريقة تضمن ولاءه المطلق، خاصة بعد الخلاف الكبير الذي وقع بينه وبين رئيسي الحكومة السابقين أحمد بن بيتور وعلي بن فليس، وغدا جهاز الإدارة في عهد بوتفليقة مكونًا في غالبيته من ولاة سابقين ومديرين تنفيذيين محليين يدينون بمناصبهم للرئيس، بعكس النخب والتكنوقراط الذين كانت الدولة تعتمد عليهم في السابق وكانوا يتميزون بشيء من الاستقلالية والمبادرة. وقد سمح هذا الإجراء للرئيس، خصوصًا بعد إلغائه منصب رئيس الحكومة واستبداله بمنصب الوزير الأول، بالسيطرة الكاملة والمباشرة على جهاز الإدارة الحكومي، الذي يمثل اليوم قوة مهمة تقف وراء ترشح الرئيس.
برز في عهد الرئيس بوتفليقة مجموعة من الأثرياء الجدد، استفادوا من قربهم من محيط الرئيس، خاصة شقيقه السعيد بوتفليقة، في الفترة التي شهدت فيها أسعار النفط ارتفاعًا كبيرًا 2006-2014، وتضخمت معها إيرادات الدولة المالية، فسيطروا على قطاعات واسعة من الاقتصاد. وقد استفاد هذا القطاع الطبقي من الأوليغاركيا الحاكمة من القروض السخية التي حصل عليها من الدولة، ومن شراء العملة الصعبة من البنوك الحكومية دون سقف تقريبًا وبالسعر الرسمي، كما استفاد من الإعفاءات الضريبية والجمركية. ساهم هذا الوضع في خلق قطاع اقتصادي جديد، يتوسط القطاعين الخاص والعام، وهو ما يمكن تسميته بالقطاع الخاص العمومي. فهو خاص من حيث ملكيته وبنيته الإدارية والقانونية، وعام من حيث مصادر تمويله؛ لأن كل أنشطته الاقتصادية كانت ممولة من خزينة الدولة ويعتاش على علاقة زبونية بالدولة ومشاريعها. ورغم أن هذا الوضع كان موجودًا قبل مجيء بوتفليقة، فإنه اتسع في عهده، الذي سمح فيه للموالين من رجال الأعمال بممارسة أدوار سياسية وامتلاك وسائل إعلامية كالصحف والقنوات التلفزيونية[4]. وقد شارك عدد كبير من رجال الأعمال الذين شكلوا "منتدى رجال الأعمال" في الانتخابات التشريعية لسنة 2017، وجرى إدراج شخصيات نافذة في المنتدى على رأس قوائم المرشحين في كل أحزاب التحالف الرئاسي وأحزاب أخرى. ويذهب بعض المصادر إلى أن "منتدى رجال الأعمال" يتمثل في البرلمان (من خلال أحزاب النظام) بنحو 130 نائبًا من أصل 462، ويمثل بهذه الصفة أكبر قوة سياسية في الجزائر؛ أي قبل حزب جبهة التحرير الوطني، والتجمع الوطني الديموقراطي، اللذين حصلا على أغلبية المقاعد من الناحية الاسمية.
وقد اتضحت قدرة المنتدى في السيطرة على البرلمان وعلى أحزاب التحالف الحاكم، وعلى جهاز الإدارة، في الصراع الذي نشب في صيف 2019 بين الوزير الأول، المعين حديثًا آنذاك، عبد المجيد تبون، ومنتدى رجال الأعمال، وانتهى كما هو معروف، بإقالة سريعة للوزير الأول، بعد أقل من ثلاثة أشهر على توليه المنصب، واستبداله بأحمد أويحيى.
خلال السنوات العشرين الماضية التي قضاها في السلطة، تمكن الرئيس بوتفليقة من فرض سيطرة شبه كاملة على الجيش، بعد أن تخلص من بقايا جنرالات انقلاب 1992. وقد نجح بوتفليقة في تحقيق ما فشل فيه أربعة رؤساء سابقين خسروا جميعًا معاركهم مع جماعة الجنرالات، إذ أقيل الشاذلي بن جديد، واغتيل محمد بوضياف، وأنهيت مهمات علي كافي، ودفع اليمين زروال إلى التنحي قبل نهاية عهدته. من الناحية التنظيمية، سمحت هذه الحركة للرئيس بإعادة هيكلة قيادة الأركان، من خلال تطعيمها بضباط من اختياره ومن الموالين له شخصيًّا، وعلى رأسهم الجنرال القايد صالح، الذي أصبح ممثل الرئيس في الجيش، والحريص على التأكد من ولاء قطاعاته للرئاسة، وفي هذا السياق يمكن وضع حركة الإعفاءات التي شملت عددًا كبيرًا من كبار جنرالات الجيش في عام 2018، ومست أيضًا أقوى الأجهزة الأمنية.
إضافة إلى إحكام قبضته على الجيش، أعاد الرئيس هيكلة جهاز المخابرات. والمعروف أن هذا الجهاز كان طوال الفترة التي سبقت مجيء بوتفليقة صاحب السلطة الفعلية في البلاد وصندوق أسرار النظام؛ ما سمح له بالتأثير وبقوة في جميع مستويات السلطة المدنية والعسكرية. وقد أعاد بوتفليقة هيكلة قيادة الأركان في خطوة أولى نحو فصل المخابرات عن الجيش، والحد من نفوذ جهاز المخابرات في المؤسسة العسكرية. وكانت الخطوة الثانية والأهم للسيطرة على الجهاز هي استبدال دائرة الأمن والاستعلامات الملحقة بوزارة الدفاع الوطني، بدائرة المصالح الأمنية الملحقة بالرئاسة، وفي إحالة رجلها القوي الجنرال توفيق على التقاعد، ووضع الجنرال المتقاعد بشير طرطاق، على رأس هذا الجهاز، ليتمكن الرئيس بذلك من إخضاع أقوى أجهزة السلطة في البلاد.
استمر الرئيس في الاعتماد على مجموعة من الأحزاب السياسية التي تمثل جسرًا ضروريًّا للعلاقة بالجمهور والمجتمعات المحلية، فكان إنشاء التحالف الرئاسي بمنزلة هذا الجسر؛ ويتكون هذا التحالف من أربعة أحزاب هي جبهة التحرير الوطني، والتجمّع الوطني الديموقراطي، وتجمّع أمل الجزائر، والحركة الشعبية الجزائرية. وتعمل قيادات هذه الأحزاب على التأكد من استمرار انضواء قواعدها في خانة دعم الرئيس، ومحاولة إجهاض أي تحرك ضد ترشحه، وإن ظهرت مؤخرًا بوادر على وجود تمرد وتململ داخل أحزاب السلطة وانحياز إلى مطالب المحتجين.
لقد تمكن الرئيس بوتفليقة مع بداية العهدة الرئاسية الرابعة من تركيز أكثر مصادر السلطة في يديه، وإنشاء شبكة واسعة من المستفيدين وأصحاب المصالح في محيطه. لكن مرضه وعجزه عن أداء مهماته يفتحان المجال أمام حصول تناقضات بين مراكز القوى المتنافسة داخل بنية السلطة، والتي كان يجمعها وجود الرئيس واستمراره في أداء مهماته على رأسها.
ومع الانتفاضة الشعبية الجزائرية ضد المحاولة المفضوحة للنخبة الحاكمة غير المنتخبة الاختباء خلف رئيس صوري منتخب، برزت مؤشرات على وجود تباينات داخل دوائر الحكم؛ إذ يبرز وإن على نحو محدود حتى الآن تياران: الأول يضم محيط الرئاسة وجهاز الإدارة ومنتدى رجال الأعمال، ويدعو إلى الاستمرارية من خلال دعم ترشح بوتفليقة لولاية خامسة حتى وإن كان غير قادر على إتمامها أو على مزاولة أبسط مهماته خلالها. فهذا التيار لم يهيئ نفسه بهذه السرعة لضمان مصالحه من دون بوتفليقة. ولهذا يحتاج إلى الوقت.
أما التيار الثاني، فيدعو إلى انطلاقة جديدة من خلال ترشيح وجه آخر من وجوه النظام، ما دام هذا ممكنًا. فهذا الخيار يرضي الشعب بمجرد تغيير المرشح من جهة، ومن جهة أخرى يحفظ استمرارية النظام القائم ونخبه الحاكمة واستمرار شبكة المصالح التي ترتبط به. ويضم هذا التيار جهاز المخابرات الذي حجّمه بوتفليقة. وقد تغير المؤسسة العسكرية موقفها إذا اتضح نهائيًّا فشل إمكانية استمرار بوتفليقة في السباق الرئاسي. وسوف يعتمد انتصار أي من هذين التيارين على قدرة الحركة الاحتجاجية على الحشد والاستمرار والتصعيد، والأهم من هذا وذلك التنظيم والتفاعل مع القوى السياسية المعارضة المنظمة. كما أن مواجهة سيناريو الالتفاف على مطالب المحتجين بترشيح ممثل آخر للنخبة الحاكمة، من دون إجراء انتخابات نزيهة تعددية وديمقراطية فعلًا، سوف يعتمد على قدرة المعارضة على الاتفاق على مرشح رئاسي واحد يتبنى برنامجًا إصلاحيًّا ديمقراطيًّا، وذلك في حال قرر النظام إرجاء الانتخابات وسحب ترشيح بوتفليقة والنزول إلى الانتخابات بوجه آخر.
مرّت الجزائر بما يشبه الحرب الأهلية؛ ولا شك أن ذاكرتها في أذهان الجزائريين ونفوسهم من أهم الدوافع لحفظ النظام والامتناع عن استخدام العنف.
وفي المرحلة التي تلت الحرب الأهلية، أعيد بناء مؤسسات الدولة، وتأسست تعددية حزبية معقولة وحرية تعبير نسبية، ونهض المجتمع المدني الجزائري. وكان للرئيس بوتفليقة دور مهم في الإصلاحات وفي إلحاق المستوى العسكري بالسياسي. وقد استعرضنا أعلاه نشوء أوليغاركيا حاكمة حول الرئيس من المجموعة الملتفّة حوله، والمؤلّفة من بيروقراطية جهاز الدولة المتداخلة مع البيروقراطية الحزبية ورجال الأعمال المتنفذين، وجهاز الأمن. وأصبحت هذه النخبة الحاكمة عائقًا أمام تطور الجزائر اقتصاديًّا واجتماعيًّا وفي السياسة الخارجية، إلى درجة محاولة فرض مرشح غيّبه المرض لرئاسة هذا البلد الكبير والعريق.
لقد آن أوان التغيير في الجزائر. ويمكن أن يكون سلميًّا ومؤسسيًّا وعن طريق حوار بين النخب السياسية في الأحزاب الحاكمة والمعارضة والأوساط الشعبية الجزائرية، والوصول إلى انتخابات نزيهة تعددية فعلًا. لقد قطع الجزائريون شوطًا طويلًا في الإصلاحات، كما وصلوا إلى درجات من الوعي المدني أظهرها الحراك السلمي. وقد آن الأوان للتغيير الديمقراطي.