لا تزال ذاكرة كبار السن ممن عاشوا طفولتهم في فلسطين، موجعة بعد غياب الوطن، والجرائم التي اقترفها عناصر العصابات الصهيونية في عام النكبة 1948، بعد أن حيكت المؤامرة برعاية الإنجليز. وبعد أن كانت معظم القرى العربية جنّة الأرض بفضل محاصيلها الزراعية، وحين نتحدث عن ماضٍ سليب، يستذكر الآباء والأجداد حجم الجريمة التي اقتُرفت بحق الفلسطينيين الذين هُجر معظمهم إلى الدول العربية والغربية، أما من بقي في الوطن من أهلنا وآبائنا وأجدادنا فيحاولون كسر حاجز الصمت والتحدُث عن الجريمة التي ارتكبت ضدهم رغم الخوف فما عادوا يقوون على كتمّ آلامهم التي لم تندمل بعد.
دمرت العصابات الصهيونية الكابري عن بكرة أبيها، مسحت معالم جميلة ميّزتها عن غيرها من البلدات بجمالها الآخاذ.
اليوم، لا تجد في الكابري سوى النصب التذكاري للعناصر الـ49 من العصابات الصهيونية الذين قتلوا على أيدي الثوار، وبقايا قبور، ومعالم أثريّة هُدم معظمها.
وقال صلاح دباجة لـ'عرب 48' إن 'والدي كان طفلا حين توفي جدي في تركيا، واسم العائلة: صلاح خليل محمد دباجة، أصلنا من قرية الكابري، لم يسكن والدي الكابري بسبب وفاة والده، وكان أبي قائدًا في الجيش التركي، فاضطُرت جدتي العودة إلى قرية عمقا، للاستقرار، وعاش والدي 12 عامًا في عمقا، ومن هناك انتقل إلى بيت عمه وهو أيضًا من الكابري، لكنه كان يُقيم في مدينة عكا'.
وأضاف دباجة أن 'أخوال والدي أقاموا في عمقا، وعاش والدي طفولته يتيمًا، إذ تزوجت والدته وأنجبت، وعاش والدي وحيدًا، ما دفعه للانتقال إلى عكا، فسكن لدى عمه، وتعلّم مهنة 'اللحام'، ثم عاد إلى عمقا وتزوج وافتتح 'ملحمة' وأصبح يُتاجر في الخضراوات والدخان، حتّى هُجر من عمقا في العام 1948، وكان هدفه الوصول إلى لبنان، لكنه غيّر رأيه لاحقًا، بعد أن وصل والداي إلى دير القاسي (فوق سحماتا، باتجاه فسوطة)، وفي العام 1948، ولد شقيقي محمد، ثم قررت العائلة العودة إلى فلسطين، فسكنوا في جث الجليل، وربطت والدي علاقات جيدة مع الجميع، كما عادت مجموعة أخرى قوامها 10 أشخاص فضلوا البقاء في فلسطين. وسكن العائدون في جث لمدّة عامين ونصف، بعدها سُمح لهم بالعودة إلى الشيخ داهود، وأقامت عائلتنا سبعة أعوام في الشيخ داهود، كان عمري 5 سنوات وقد وُلدت في جت في 28.9.1950، أذكر أنه كنّا نملأ الماء من عين العسل في الكابري، أذكر ما تبقى من البساتين، وتعرفتُ على معالم الكابري التي كانت مهدمة، وكان فيها قسم من الزاوية الشاذلية التي هُدمت لاحقًا، وعين العسل والمطاحن التي بقيت في الكابري، بينما دُمرت البيوت تمامًا منذ اليوم الأول للاحتلال. كان والدي يحدثنا عن الكابري، وعن عائلتنا التي عاش قسم منها في ترشيحا أيضا، وكان هناك أربع أسر من عائلة دباجة انتقلت إلى برج البراجنة في لبنان وأحد الأشخاص، شاكر دباجة، وصل إلى هناك وهو في السادسة عشرة من عمره، اليوم لديه ثلاثين حفيدًا وابنًا جميعهم في برج البراجنة'.
وعن الكابري في عام النكبة، قال دباجة، إن 'عدد سكان الكابري وصل عام 1948 نحو 1770 نسمة، لم يبق أحدٌ منهم سوى والدي وسيدتين تزوجتا وتركتا الكابري. وكانت البلدة في حينه عبارة عن حارتين، الحارة الغربية والشرقية، أبنيتها جميلة من الحجر والإسمنت، شوارعها كانت مرصوفة بالحجر، وهي بلدة كانت تحلو الحياة فيها، حيث كثرة الينابيع، نبع عين العسل، نبع الكابري (الباشا)، نبع المفشوخ ونبع الفوارة.
تميّزت الكابري بوجود عشرات بساتين الحمضيات والبرتقال وغيرها من المزروعات، ووصلت مساحة البساتين إلى 694 دونما، إضافة إلى 50 دونمًا مزروعة بالموز، و540 دونمًا عامرة بالزيتون، وفيها التين والعِنب والتفاح والخوخ، وناتجها الزراعي كان يُصدَّر لحيفا وعكا، وفي الكابري كانت هناك مدرسة يتعلم فيها 100 طالب، وفي عام 1947 تمّ إنشاء مدرسة جديدة، لكن لم يتم افتتاحها. المجلس البلدي في الكابري كان هدفه الاهتمام بشؤون البلدة، وشُقت في القرية القنوات وعُبدت الأرصفة، ووزعت الإعاشات على الفقراء من قبل المجلس'.
وأشار إلى دور الكابري في فترة الثورة، 'أعرف أنه في عام 1936 كان هناك مركز قيادة الثوار، إذ دعم أهل الكابري الثورة بالمؤن، وتجنّد عدد كبير من شباب القرية للمشاركة في ثورة العام 1936، وكان أبرزهم الدليل وشقيقه عيد، وكانا على صلة دائمة بقائد الثورة في الجليل 'أبو إبراهيم الكبير' واليوم لم يبقَ أحد من أهل الكابري في البلاد، خاصةً بعد الواقعة التي حصلت عام 1948، حيث اعترض أهالي الكابري وبعض الثوار من القرى المجاورة طريق القافلة التي حاولت نقل مؤن لسكان 'كيبوتس جدين'، وتمّ قتل جميع من كان في القافلة. في حملة سُميت 'بن عامي' تمكنوا من تهجير أهالي أم الفرج والنهر والتل والكابري والغابسية، وبعد تهجير أهل الكابري في 21 أيار/ مايو 1948 من قريتهم هُدمت في اليوم نفسه جميع أبنية القرية، ولم يعد أي أثر للبيوت'.
واستذكر دباجة أنه 'خلال فترة سكنانا في دانون كنتُ يوميًا أزور عين العسل في الكابري، إذ يلتقي نبع عين العسل بالمياه في جدين، لتتحِد معا، وكانت المياه تتدفق بغزارة وصولا إلى نهريا، وفي ذلك الوقت كانت لا تزال بقايا تركها أهل الكابري، كنتُ صغيرًا كما ذكرت حين تعرفتُ على معالم الكابري التي دُمرت منذ اليوم الأول لاحتلالها، كان والدي يحدثنا عن عائلتنا وأقاربنا، أمضينا طفولتنا في الكابري لعبًا وسباحةً ومرحًا، في مناطق جميلة. أحاطت البلدة من الجهة الجنوبية للكابري بالغابسية ومن الجنوب الشرقي جدين، وغربًا أم الفرج والحميمة، كانت أراضيها تصل حتى شارع عكا- نهريا، وتستمر حتى حدود الزيب والبصة، ومن الشمال وادي القرن، ومن الجهة الشمالية جبال شاهقة، ومن الجهة الشرقية كانت الحدود تصل ترشيحا. كما استُشهد من قرية الكابري سبعة أشخاص بعد الجريمة التي اقترفها اليهود، وفي أعقاب معركة الكابري صدرت أوامر من الجيش (وحدة كرميلي) بقتل الرجال وتهجير النساء وهدم البيوت، وبعد سبع سنوات أمضيناها في قرية دانون مع العائلة، انتقلنا إلى قرية أبو سنان، حيثُ امتلكنا أرضًا وبقينا فيها حتى يومنا هذا'.