قال جابر بن عبد الله: كنا نعمل مع رسول الله عليه السلام في حفر الخندق، وكانت عندي شاة صغيرة، فقلت والله لو صنعت هذه الشاة لرسول الله عليه السلام، فذبحها وطبخها لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
فقلت: يا رسول الله، إني صنعت لك شاة وشيئا من خبز الشعير وأحب أن تأكل منها.
فأمر رسول الله عليه السلام رجلا فنادى في الناس: انصرفوا إلى بيت جابر.
فقال جابر في نفسه: إنا لله وإنا إليه راجعون_بسبب أن الطعام لا يكفي الجميع.
فأقبل رسول الله عليه السلام والناس معه، فأخرجها إليهم جابر وأكلوا، كلما فرغ قوم من أكلها قاموا وجاء قوم آخرون، حتى أكل أهل الخندق جميعا، وهذا من بركات الرسول عليه السلام.
القائد العظيم الذي إذا كان بين شعبه ظهر كأنه واحد منهم وليس واحدا عليهم.
هذا هو الأساس الأعلى للتواضع، وهو أساس لا يُنقص من قيمة القائد، بل يرفع من مكانه ويُكسبه ثقة الناس به. فهو لا يمنح نفسه رتبة فوق الجميع، ولا يزدري أحدا منهم، ألم تر إلى النبي عليه السلام حين أراد أن يكون واحدا منهم، فقد أبى أن يلبي دعوة جابر حين صنع له طعاما إلا حين أمر المنادي أن ينادي بالناس، فأتوا معه.
إن تولية المواقع العليا في المجتمع يضع الإنسان أمام ظروف وضغوط جديدة، من شأنها أن تقيد سلوكه وحركته، وربما تغير فيه بعض خصائصه وطبائعه، فقد يندفع إلى الغرور والاستعلاء أو النظر إلى الآخرين بعين التفاهة، والسبب في ذلك هو افتقار هذا النوع من الناس إلى القدر المطلوب من "ثبات الشخصية"، أي لا يعتريها تغيير في حال وجودها في هذه المواقع أو عدم وجودها.
عندما يكون المركز أو الموقع الذي يتربع عليه أحدنا أقوى من إرادته أو شخصيته يتحول سلوكه إلى سلوك علو واستكبار.
أما علم أمثال هؤلاء أن الفرد لا يكتسب قيمته بثياب مطرزة وإنما بحقيقة النفس التي هي من تحت هذه الثياب، كما قال الإمام الشافعي:
عـلي ثيـاب لو تُباع جميـعها
بفلس لكان الفلس منهن أكثرا
وفيـهن نفس لو تقاس ببعضها
نفوس الورى كانت أجل وأكبرا
كم يكون الحال مؤلما حينما تجد أشخاصا حصدوا رتبا قيادية عالية فشعروا أنهم "أرباب" وليسوا قادة، يفرح قلبه حين يتذلل الضعيف بين يديه، وتقر عينه حين يتوسل الفقير عند قدميه، "لم أفهم يوما كيف يسع لإنسان أن يشعر بالتكريم إذا ما رأى أخا يتذلل له" (من أقوال غاندي).
أيها القادة! أيها المسئولون! أنظروا إلى سنابل القمح كلما حملت حبات أكثر أخفضت رؤوسها فازدادت جمالا.