الرئيسية » مشاركات القراء » الربا… عبوديةٌ للبنوك ونزعٌ للبركة
الربا… عبوديةٌ للبنوك ونزعٌ للبركة
15/12/2025 - 10:47
في زمنٍ صار فيه الحرام يُسوَّق باسم الحاجة، ويُزيَّن بعبارات “فقه الواقع” و“المصلحة”، غاب عن كثيرٍ من الناس أنّ الربا ليس معاملةً ماليةً فحسب، بل منهج حياةٍ قائم على الاستعباد، وسببٌ مباشر لنزع البركة، وتفكيك الطمأنينة من الفرد والعائلة والمجتمع. والربا في الإسلام ليس موضع نقاشٍ ولا بابَ اجتهاد، بل هو حكمٌ قطعيّ، معلومٌ من الدين بالضرورة، جاءت نصوصه صريحة لا تحتمل الالتفاف ولا التخفيف. قال تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾، ثم قال بلهجة لم ترد في ذنبٍ غيره: ﴿فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾، فأيّ فقهٍ هذا الذي يجعل المسلم يدخل حربًا مع ربّه بملء إرادته، ثم يطلب السلامة؟
 
إنّ أخطر ما في الربا أنّه ينقل الإنسان من الحرية إلى العبودية؛ عبوديةٍ لا تُرى في القيود، بل تُعاش في القلق الدائم. فآخذ الربا يصبح أسير القسط، وتابعًا للبنك، مرتهن القرار، خائفًا من الغد، يحسب أيامه بالأقساط لا بالطمأنينة. ولا يقف الأذى عند الفرد، بل يتسرّب إلى البيت كلّه؛ توتّرٌ دائم، خوفٌ من التعثّر، خصامٌ بين الزوجين، ضغطٌ على الأبناء، وقلقٌ يسرق السكينة من أبسط لحظات الحياة. بيتٌ بُني بالربا قد يعلو جدارُه، لكنّه يفتقد السقف الأهم: سقف البركة.
 
وقد أخبر النبي ﷺ عن هذه الحقيقة بوضوح: «إنّ الربا وإن كثر، فإنّ عاقبته إلى قلّ». فليس الفقر دائمًا نقص المال، بل ذهاب البركة، وضيق الصدر، وكثرة المشكلات مع وفرة الموارد. وما أكثر من يملكون ولا يهنؤون، ويجمعون ولا يطمئنون، لأنّ المال الذي خالطه الحرام لا يستقرّ في القلب ولا في الحياة.
 
ثم يُقال للناس: “الضرورة”، وكأنّ الضرورة صارت اسمًا آخر للرغبة، أو للعجلة، أو للتشبّه بالآخرين. والحقيقة أنّ كثيرًا مما يُرتكب من الربا اليوم لا علاقة له بالضرورة الشرعية، بل هو تسويغ للنفس، وتبريرٌ للعجلة، ورضوخٌ لمنطق السوق لا لمنطق التقوى. ويزيد الطين بلّة من يقول: “ضعها في رقبة عالم”، وكأنّ الإثم يُفوَّض، مع أنّ الله تعالى قال: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾، والتكليف مناطه العقل، والعاقل يُسأل لأنه قادر على الفهم والتمييز، ولا يُعذر إذا علم النصّ ووعيدَه ثم تجاهله.
 
إنّ الربا لا يُفسد المال وحده، بل يُفسد القيم؛ يُعلّم الإنسان أن يقدّم المصلحة العاجلة على طاعة الله، وأن يقدّم الراحة المؤقّتة على السلامة الدائمة. ومع الوقت، يصبح الحرام عاديًا، والنصّ ثقيلاً، والتقوى خيارًا ثانويًا، وهنا تكمن الكارثة الكبرى.
 
وفي المقابل، يضع الإسلام قاعدة واضحة لا التباس فيها: التقوى قبل كلّ شيء. فمن اتّقى الله، جعل له مخرجًا، ولو ضاقت الأسباب، ورزقه من حيث لا يحتسب، ولو خالف الحسابات. قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ﴾. هذه ليست آية وعظٍ، بل وعدٌ ربّاني، صدق مع من صدق الله.
 
يا أهلنا، يا من أثقلتهم الأقساط، وأرهقهم القلق، واعتصرت قلوبهم المخاوف على بيوتهم وأبنائهم… اعلموا أنّ باب الله أوسع من كل بنك، وأنّ رحمة الله أسبق من كل عقد. لا تيأسوا، ولا تستسلموا للحرام بحجّة الواقع، فالله لا يكلّف نفسًا إلا وسعها، ولا يترك من صدق معه. عودوا إلى الله بصدق، أعيدوا النظر في أولوياتكم، قدّموا رضا الله على ضغط الحياة، وثقوا أنّ التقوى ليست خسارة، بل نجاة، وأنّ القليل مع البركة خيرٌ من الكثير مع القلق.
 
اللهم يا واسع الفضل، يا رازق الطير في السماء، فرّج همّ كل أسرةٍ أثقلها الدَّين، واكفِهم بحلالك عن حرامك، وأغنِهم بفضلك عمّن سواك، وانزع من بيوتهم القلق، وأنزل عليهم السكينة والبركة، واهدِ قلوبنا جميعًا لما تحبّ وترضى.
 
-بقلم الدكتور فؤاد شملة
اضف تعقيب
الإسم
عنوان التعليق
التعليق
ارسل
  • 05:07
  • 11:36
  • 02:21
  • 04:39
  • 06:01
  • You have an error in your SQL syntax; check the manual that corresponds to your MariaDB server version for the right syntax to use near ')) order by `order` ASC' at line 1