في القرن المُنصرم أصبح سور الصين العظيم رمزاً شبه رسميّ للصين وذلك بعد أن مشى عليه الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عام 1972 خلال رحلته إلى الصين مُعلناً الاعتراف الدبلوماسي بها.
يُعدّ هذا السور من أهم مواقع التراث العالمي وذلك بعد أن تم اختياره كواحد من عجائب الدنيا السبعة الحديثة في استطلاعات للرأي عام 2007.
لكن أهمية هذا السور لم تبرز إلا مؤخراً وتحديداً في القرن العشرين إذ تم البحث في تاريخه والتنقيب في جذوره ومعرفة أسباب بناءه ومنذ تلك الفترة أطلق عليه الغربيون لقب سور الصين العظيم أو ما يُعرف بـ The Great wall of China.
والأكثر إثارة للدهشة بموضوع هذا السور هو أن الرحالة الشهير ماركو بولو خلال رحلاته للصين لم يتطرق أبداً إليه في كتاباته! وكان ذلك في القرن الثالث العشر! فهل كان السور موجوداً؟! وإن كان موجود لماذا لم يذكره إذاً!
الجدران جزء أصيل من الحضارة الصينيّة، فالصينيون غالباً كانوا يحيطون أنفسهم بالجدران ويتفنّنون في صناعتها، أما سور الصين فقد كان الجدار الأضخم الذي احتوى جميع الجُدر في داخله، فلا يُعتبر هذا السور مجرد سور فحسب، بل نظام دفاعي متكامل مؤلف من العديد من الثكنات والحصون بالإضافة لأبراج المراقبة.
وخلال فترة حكم عائلة ” مينغ ” كان سور الصين بطول 7000 كيلو متر تقريباً، وكان مُقسّماً إلى عدة مناطق عسكرية ولكل منطقة ضابط يقوم بحمايتها والدفاع عنها وإصلاحها في حال تعرضها لبعض الأذى، كما كانت هذه المناطق تتكاتف جميعاً أثناء الحروب لتشكل حصناً منيعاً يصعب على العدو اختراقه، وقد بلغ عدد الجنود الصينين الموكّلين بالدفاع عن السور ما يقارب المليون جندي!
بالرغم من كل هذا لم يقم السور بمهمته في الدفاع عن حدود الصين ضد هجمات المغول والبربر بل تم اختراقه العديد من المرات.
جغرافيّة سور الصين
يمتد سور الصين من البحر الأصفر شرقاً ولغاية صحراء غوبي غرباً. ويمتلك هذا السور جغرافيا تضاريسيّة متعددة ومتنوعة كثيراً، إذ يمر بالعديد من الصحاري والوديان والمرتفعات كما يعبر أنهاراً وأجرافاً ومروجاً.
وتختلف نوعيّة المواد الداخلة في بناء هذا السور تبعاً للمنطقة التي بُني فيها، ففي الصحاري كان يُبنى من بعض الأحجار المحليّة وغير المقاومة للعوامل الجويّة بسبب عدم توافر الصخور والأحجار الصلبة، أما في المناطق الترابيّة وتحديداً ” هضبة التراب الأصفر ” فقد بُني من التراب القاسي والطوب غير المحروق. أما أفضل أجزاء هذا السور فقد تم بناءه في عهد أسرة ” مينغ ” إذ أن غالبه بُني في تلك الفترة من الحجارة والصخور الصلبة.
إضافةً لجغرافيّته المُميزة يمتلك هذا السور بعض التقنيّات المفيدة أيضاً، إذ يحتوي على قناة لتصريف مياه الأمطار على قمته لكي لا تعيق حركة الجنود أثناء مهامهم في الحماية والدفاع عن الحدود، كما يمتلك عدد كبيراً من الأبراج التي صُنعت من الحجر مع قاعدة من الصخور بارتفاع حوالي 12 متراً، وقمتها مُستدقة تتجه نحو الأعلى بارتفاع تسعة أمتار، وأُحيطت هذه الأبراج بستار وحجاب صخري لإبعاد الغزاة من جهة ولإبعاد الأرواح الشريرة كما كان متداولاً تلك الفترة من جهة أخرى! كما تم بناء هذا السور أيضاً بشكل غير مستقيم بل متعرج، بسبب ما كان يُعرف آنذاك أن الشياطين تمشي بخطوط مستقيمة ويتعذر عليها المشي بخط متعرج!
لم يتم بناء هذا السور في فترة زمنيّة مُحددة بل على فترات كثيرة، فتارةً كان يهُتم به من قبل الأسرة الحاكمة فيُرمم ويُصلح ويُجدد بناءه وتارةً أخرى يتم إهماله فيترك عرضةً للعوامل الجوية ولهجمات العدو، وسنتعرف الآن عن أبرز مراحل بناء هذا الصرح الضخم خلال تاريخ الصين العريق…
المرحلة الأولى… فترة الولايات المتحاربة
كانت الصين في القرن الرابع قبل الميلاد خاضعة لسلطة الأمراء الدينيّة، مما أدى لتمزيق البلاد إلى ولايات عدّة، وكل ولاية كانت في صراع مستمر مع الولاية الأخرى، فاضطرت هذه الولايات لبناء جدران حول حدودها لفصل مناطق نفوذها عن المناطق الأخرى ولحمايتها ضد هجمات الأعداء، ونتيجةً لذلك فقد تم بناء ما يقارب 4500 كيلو متراً من الأسوار المتقطعة المنفصلة التي تحيط بكل ولاية، وقد بلغ عدد هذه الولايات المُتحاربة ما يقارب 120 ولاية لكن في زمن احتدام القتال انخفض هذا العدد إلى 7 ولايات فقط بسبب سحق وتدمير معظم الولايات الصغيرة.
المرحلة الثانية… فترة الإمبراطور الأوحد
في القرن الثالث قبل الميلاد وقعت حادثة محوريّة في غاية الأهمية، حيث اعتلى عرش الصين طفل عمره 13 سنة فقط، وأصبح إمبراطوراً لها وعُرف بالإمبراطور الأوحد ” تشين شو وانغ تي “.
تشين هو أول إمبراطور للصين، وتقول الأساطير أنه رأى في الحلم أنه هرب وصعدَ إلى القمر فوق سجادة سحرية ونظر للأسفل فوجد أن ممتلكاته غير محمية من الأعداء الذين ازداد عددهم فاستيقظ من النوم وأيقظ مستشاريه وأعلن أنه سيبني سوراً عظيماً.
بعد أن وحّدَ الإمبراطور الصين بقضائه على آخر ولاية متمردة ” ولاية تشو ” أمر أحد جنرالاته والمعروف بالجنرال ” تانغ ” بالبدء ببناء سور ضخم لحماية حدود البلاد وللفصل بين الشعب المتحضر والشعب البدوي البربري الذي قد يغزو الصين في أي لحظة، فتم دمج ما تبقى من جدران الولايات المُدمرة مع بعضها وإعادة ترميميها كما تم بناء عدة جدران أخرى متصلة مع بعضها البعض.
مأساة البناء في عهد الإمبراطور تشين
إن القوة البشريّة الضخمة لبناء السور في عهد الإمبراطور تم تعزيزها بتسخير الفلاحين للعمل، بالإضافة إلى جلب المجرمين و الأسرى وكل من كان يطلق عليه لقب عدو الإمبراطور للعمل في البناء، وقيلَ أنه من بين كل ثلاثة رجال يذهب واحد للعمل ومن بين كل عشرة عمال كان ثلاثة فقط يرجعون أحياء! كما أمر الإمبراطور جنوده بقتل كل عامل يجدونه نائماً على الجدار.
نتيجةً لذلك مات العديد من العمال في تلك المناطق النائية التي عملوا بها وخصوصاً الصحاري، فبناء سور الصين كان بمثابة تعذيب بالنسبة لهم، فكانت جثثهم تُرمى ضمن الجدار وتُخلط مع الطوب السائل وتضيع ضمن سماكات ضخمة من الخرسانات القوية، وقد جُسّدت هذه المشاهد المؤلمة في العديد من قصائد الأدب الصيني ولا سيما قصائد السيدة مينغ.
بلغ عدد العاملين في بناء السور حوالي 2 مليون، مات الآلاف منهم نتيجة الجوع والمرض والعوامل الجوية المُزرية، دُفنت جثثهم حيث سقطوا ولم يسمع بهم أحدٌ أبداً… بعد أن انتهى الإمبراطور من بناء السور أعلن أن الصين أصبحت الآن لا تقهر ولكن هناك حكمة تقول:
وفاة الإمبراطور واكتساح التتار للصين
توفي الإمبراطور تشين واستلم الحكم من بعده ابنه الإمبراطور ” هو هاي ” كان أضعف من والده ولم يكن قيادياً بارعاً، إذ قام بسجن جميع مستشاري والده بما فيهم الجنرال تانغ ولم يلبث أن حكم أربع سنوات حتى تم خلعه من قبل الثوار ودخلت الصين في حرب أهلية استمرت خمسة عشر عاماً.
بالرغم من قوة سور الصين ومناعته إلا أنه لم يكن فعالاً في صد غزوات البرابرة والهمج الذين يشتهرون باسم ” التتار ” وهو اسم أُطلق على الجحيم في القرون الوسطى، فلقد كانوا وحوشاً أكثر من كونهم بشراً… يأكلون لحم الكلاب ويشربون الدماء.
أحدهم كان يُعدّ هجوماً على سور الصين وكان قائداً شرساً جداً فقد وُلدَ وفي يده كتلة من الدماء وارتبط اسمه بالرعب في جميع أنحاء الصين… جنكيز خان.
في عام 1211 للميلاد زحف المغول بقيادة جنكيز خان وعبروا سور الصين وانتشروا كالجراد الذي يغطي وجه الأرض، احتاج الأمر ستين عاماً حتى تسقط الصين كاملة بيد المغول وذلك على يد كوبلا خان حفيد جنكيز خان، فأعلن نفسه إمبراطوراً للصين عام 1271 وحكمها لمدة مئة عام تقريباً.
في هذه الفترة زار ماركو بولو الصين، ولم يذكر في كتاباته أي شيء عن هذا السور، لأن السور ذاك الحين لم يكن موجوداً، فلقد كانت 60 سنة من الصراع مع البرابرة المغول كافية لأن تجعل سور الصين مجرد حجارة صغيرة وأطلال لا تشهد على وجود سور عظيم من قبل!
المرحلة الثالثة… البناء الحقيقي للسور
نجحت مجموعات من الفلاحين بإنشاء تمرد ضد حكم المغول واستطاعوا خلعهم والحصول على سلطة الصين وهنا بدأت مرحلة حكم سلالة مينغ المؤسسيين الحقيقيين لهذا السور.
أبناء سلالة مينغ هم البنّائين الأكثر فعاليّة لسور الصين، فلو لم ينجزوا عملهم لما وجدنا السور كما نعرفه اليوم، الآن سور الصين مبني من الحجارة المُنسّقة والمنتظمة بالإضافة لوجود فتحات للنار من أجل ضرب الأعداء وهذا العمل المُتقن يتطلب بنّائين متخصصين تُدفع لهم الأموال، ليس مجرمين وقطّاع طرق يذهبون ليموتوا في الصحاري كما فعل الإمبراطور تشين!
وقد بلغ السور ذروة تطوره في القرن السادس عشر على يد الإمبراطور ” وان لي ” فازدهر من جميع النواحي فأطلق على السور اسم ” سور وان لي “.
انتهت مرحلة حكم سلالة مينغ عندما استطاع المنشوريين أخذ الحكم منهم، وقد حكم المنشوريين حتى القرن العشرين إذ تمت ازاحتهم عام 1912 من خلال قيام الثورة الديمقراطية في الصين، ومنذ تلك الفترة أصبح هذا السور المقصد الأول للسياح الوافدين إلى الصين… أما أثناء قيام الثورة الثقافية في الصين عام 1966، فقد تم تدمير عدة أجزاء عمداً من هذا السور من أجل إقامة بعض المشاريع الهامة وفتح الطرق والشوارع.
إن قصة بناء هذا السور عبارة عن قصة لصراع دموي ومعاناة إنسانيّة، تنبع من أهميّة الأرض والشعب، تنخرط الصين في المجتمع الدولي وتنبذ فكرة العزلة التي لطالما جسدها هذا السور محولةً إياه إلى أحد أعاجيب هذا العالم كرمز للبقاء والمجد الإمبراطوري والعزّة الوطنية.