البدء من جديد .. بقلم مفلح أبو جابر
كان يجلس في زاوية المقهى وحيدا، وقد بدا عليه كأنّه ينتظر أحدا ما، فقد كان كثير النظر إلى ساعته الّتي تراخت عقاربها، فكانت تزحف مثقلة وكأنّها تشاركه همومه الّتي أثقلت نفسه منذ فترة ليست بالطويلة، ولم لا....؟! فمن قال إن الهموم تُقاس بطولها بقدر ما تُقاس بثِقَلها ؟؟؟
كان يتعقّب دخان سيجارته الّتي كان يلتهمها بغضب وينهره بزفيره الّذي وصل صوت صمته إلى كل خليّة في جسده، حتّى كاد ذلك الصمت أن ينفجر في كل ما حوله، لولا أنّه خشي أن يسمعه جلساء المقهى فيعتبرونه مجنونا.......... مجنون؟!.... ابتسم بسخرية..... ثمّ غلبته ضحكة ساخرة لم تتعدّ مسامعه..... تُرى ما هو الجنون؟؟؟ وما يضيره أن يكون مجنونا ؟؟؟ ألا ينظر المجنون إلى غيره على أنهم هم المجانين؟؟؟.. وهل الجنون إلّا العقل حين يوضع في غير موضعه؟؟؟ وهل هؤلاء البشر إلّا مجانين لا يُدركون مدى جنونهم الّذي غلب عليهم فأنساهم حالهم........ .
ينظر إلى ساعته مرة أخرى ويطلب فنجانا من القهوة...... ثمّ يشعل سيجارة يبدأ بالتهامها بشراسة، قابضا بإصبعيْه على ذيلها بقوّة، فيرتشف قهوته الّتي ضاع مذاقها فاختلط مع الأفكار الّتي تتصارع في رأسه، وتتعارك في ذهنه، ثمّ يهزّ رأسه ويعضّ أسنانه قائلا لنفسه " بسيطة ........ " .
يعود إلى مراقبة ساعته مرة أخرى، لقد دخل الموعد منذ بضعة دقائق بدت في حساباته أيّاما طويلة، أيّاما قد امتدّت بطولها إلى الماضي فلم تُبقِ منه شيئا ...... لقد ضاع كل شيء ....... ضاع الماضي وضاع الحاضر ...... وضاع كل شيء ..... ثم شهق من ذيل سيجارته شهقة عميقة سرت عبر دمه إلى أطراف جسده واخترقت أغوار روحه، فبدت عليه لحظات من الارتياح قد تسلّلت إلى نفسه ..... فضحك بصوت خفيّ قائلا " نعم، إنّ البشر كلّهم مجانين، بل إن جنونهم هو الّذي يحول بينهم وبين فَهْم تلك الحقيقة ........... حقيقة جنونهم ".
ها هي الأفكار تعود متدافعة إلى رأسه لتبدأ عراكها من جديد، كأنّما أخذت قسطا من الراحة وعاودت الكرّة مرّة أخرى، أمّا ذهنه فقد تحوّل إلى حلبة صراع تتصارع فيها الهموم، فيسمع صدى صرخاتها مدوّيا بين أروقة جسده .......... يغمض عينيه مسترخيا لعلّه يطرد ذلك الصراخ فلا يسمعه، أو لعلّه يجد في الظلام سلوة تنفض عنه شيئا من همومه.... .
يجيل ببصره في أرجاء المقهى، إنّه ليس مكتظّا كعادته، بل يكاد يكون فارغا إلّا من بعض روّاده المزمنين الّذين لا عمل لهم سوى الثرثرة المملّة ولعبة الكوتشينو الّتي أصبحت عبادتهم الوحيدة في هذا الزمن، فمعظمهم قد جاوز العقد السادس من حياته، بل لعلّ معظمهم كانوا أفضل منه في سنّه، وهل سيكون هو أفضل منهم حالا بعد عقديْن من الزمن!!... ينتبه إلى سيجارته الّتي لسعته حرارتها وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، فيتناول فنجانه مرتشفا ما تبقّى فيه من القهوة ... " أين هو هذا الرجل ؟! ولم يتأخرّ؟!!، وما كاد يتمّ تمتمته حتّى ظهر على باب المقهى شابّ وسيم، تبدو عليه سمة النعومة والنضارة، ويشير هندامه إلى إنسان مثقّف، وما إن جلس حتى بادره قائلا:
- أين أنت يا رجل ؟ خلتك لن تأتيَ أبدا ....
- وهل مضى على موعدنا الكثير؟!! إنّها دقائق معدودة، أم هل تغيّرت نظرتك إلى الوقت.... فأصبحت تحصي الثوانيَ قبل الدقائق ؟!....
-لا بأس، فأنا بانتظار موعدنا هذا على أحرّ من الجمر منذ كلمتك بالأمس......
ثم أخرج سيجارة وانشغل بإشعالها طالبا فنجانيْن من القهوة، ثم أردف قائلا :
-آه يا سعيد، لا أدري لماذا تمرّ أطياف الماضي فجأة في خلدي وكأنها حدثت بالأمس القريب !! أيّام الدراسة الّتي عشناها معا......وسهرناها معا.... كأنّها لحظات أبت إلّا أن تعمّر فينا أبد الدهر......
-لا أخفيك يا صديقي..... فأنا أيضا يراودني شيء من ذلك.... تلك الأيّام الخوالي الّتي كنّا لا نأبه فيها لشيء...... نعم، لقد عشناها كما هي دون خوف من المستقبل.....
-نعم ..... المستقبل.... تلك الكلمة الغامضة والعصيّة على الفهم..... فالمستقبل أشبه ما يكون بشيء تبقى تطارده ما حييت.... كلّما شعرت أنّك أدركته رأيته يبتعد عنك من جديد.
-لا شكّ فيما تقول يا صديقي...... إنّه لأمر جميل أن يعيش الإنسان في ذاكرته مسترجعا شيئا من ماضيه الجميل، فعلى الأقلّ تنفض روحه بعض هموم حاضره..........، ولكنك لم تخبرني... ما الأمر؟! ولِمَ هذا التلهّف والعجلة على اللقاء؟! هل هناك جديد يا أحمد ؟
وبدا أحمد مرتاحا بعض الشيء، فقد منحته رؤية سعيد وذكريات الماضي بضع دقائق يتلذّذ فيها بسيجارته، ويتذوّق طعم قهوته.... ثمّ نظر بصمت إلى هندام سعيد وأناقته.... نعم... ما أسرع الأيّام، بالأمس كانا على مقاعد الدراسة، وكانت طموحاتهم تبدو بعيدة في بطن الزمن...... المستقبل والحياة والنجاح والعمل والأسرة...... كان سعيد متفوّقا في كلّ شيء... وكان مصرّا على دراسة الحقوق ومزاولة مهنة المحاماة.... ثم لحظات من عمر الزمن، وها هو يجلس أمامه تماما كما أراد... محاميا ناجحا.. طموحا وهادئا، يتكشّف هدوئه عن عزيمة وإرادة وتصميم.......
-لا..... يبدو أنّ هنالك أمر جلل... ما بالك يا رجل؟! ألا تقول شيئا .......!!
-لقد تعقّدت الأمور يا صديقي، وأصبحت أشعر أنّني أدور في دوّامة، بل في دائرة مغلقة لا أرى منها مخرجا.....
-أتقصد قضيّتك مع زوجتك؟ وهل جدّ في الأمر جديد؟
يصمت أحمد ثانيةً لا يدري من أين يبدأ... ثمّ إن سعيد يعلم كلّ شيء.. فهو صديق الطفولة.. وصديق الدراسة.... بل وصديق العمر كلّه ... ما مضى منه وما هو آتٍ ....ثم هل يظلّ يسرد عليه القصّة كلّ مرة من جديد... لكن لا... فالأمر الآن قد اختلف، ولا بدّ أن تكون هناك إجراءات عمليّة.
-هل ستبقى صامتا؟ لقد أصبح صمتك يضايقني يا رجل... ثمّ إنك أمام مُحامٍ يقضي جلّ أوقاته بين أروقة المحاكم وثنايا الملفّات.........
-طبعا سأتكلّم... لكنّني أراجع الكلام في رأسي للمرّة الأخيرة... فأنت تعرفني... إذا عزمت على شيء لا أتردّد فيه أبدا.....
- أعرف ... أعرف... وهذا جزء ممّا أنت فيه الآن....
ويبتسم سعيد ابتسامة تنفرج عن ضحكة سريعة مختصرة....
-اسمع يا حضرة المحامي... لقد قرّرت أن أنفصل عن زوجتي..... أطلّقها... وهذا قراري الأخير... فالأمر لم يعُد محتملا.....
يستمع سعيد إلى صديقه الّذي استرسل في سرد قصّته مع زوجته من جديد.... بدءً بالخلافات والخصومات بينهما، مرورا بتدهور العلاقات الزوجيّة وانعكاس ذلك على البيت وأهله، ثمّ تركها للبيت وأخذ الأطفال معها..........
يصمت أحمد عن الكلام للحظات طالبا قهوةً مرّة أخرى.... فيعتذر سعيد عن قهوته ......ويسود الصمت.. فسعيد يعلم يقينا أن صديقه لم ينتهِ من كلامه بعد، فكل ما قيل يعلمه من قبل، وسمعه من أحمد مرّات عديدة.... فلماذا إذن يعزم على الطلاق الآن.... لكنّه يبقى صامتا حتّى ينتهي صديقه من تفريغ ما في صدره وفضّ ما في قلبه من الضيق والهمّ....... ثمّ يردف أحمد قائلا بلهجة ملؤها الغضب، وكأنّ كلماته تمتزج بالشرر الّذي يتطاير من عينيه قبل عبورها على لسانه..
- نعم.... لقد عزمت على الطلاق .... أريد أن أنهي كل شيء .... فلا يمكن أن تُذلّ كرامتي أبدا ما حييت .... ولو بالدنيا كلها .....
يحافظ سعيد على صمته، فهو يدرك أنّ الموقف يحتاج إلى الحكمة أكثر من حاجته إلى المحاماة والقوانين الصمّاء الّتي لا تعرف المشاعر ولا تلامس ألم النفوس وقهر القلوب....فبدا غير متفاجئ ممّا قاله أحمد، بل ولاحت على وجهه ابتسامة خفيفة تُخفي وراءها تجربة رجل قد خاض هذه المواقف وتمرّس فيها ... فقد أكسبته مهنة المحاماة خبرة واسعة ومنحته باعا طويلا في مثل هذه القضايا وغيرها ......
واستطرد أحمد قائلا :
-لن أسمح لأحد- كائنا من كان- بأن يذلّ كرامتي... وبالذات امرأة !! لا..لا.. لن أسمح بذلك.. بل سأنتقم لنفسي على ما فات... ثم لا بدّ بأن تفهم هؤلاء النسوة أنّنا ما زلنا رجالا... لنا هيبتنا وكرامتنا..
- وهل ستجعل من خلافاتك مع زوجتك شعار حرب بين الرجال والنساء.... أم أراك تنادي بحقوق الزوج؟؟ دعك من هذا يا رجل ...ولا تدعنا نخوض في نقاشات لا مخرج لنا منها... ثمّ هلّا أخبرتني بسرّ قرارك هذا.... أعني انفصالك عن زوجتك .... ولماذا في هذا الوقت بالذات ؟
يزفر أحمد زفرة غضب تنمّ عن نار تتأجّج بداخله مشعلا سيجارته الّتي ما زالت في قبضته منذ دقائق .... ثمّ يرسل نظرة عابرة إلى الوجوه الخاشعة في أوراق الكوتشينو.....
-وما حاجة الرجل إلى زوجة لا تقف إلى جانبه ساعة العسرة !! وهل يستطيع الرجل أن يعيش مع زوجة تتخلّى عنه في الملمّات والمصائب ؟! ألا يكفي مغادرتها البيت واصطحاب الأطفال معها حتى يصلني أمر بإخلاء البيت ؟.. وباسم ماذا ... باسم قانونكم يا حضرة المحامي .... هذا القانون الأعمى والأصمّ الّذي سُلّط على رقاب الرجال.....اسمع يا سعيد .. لن يكون ذلك أبدا... ولن يحصل هذا أبدا ما حييت ، فكرامتي فوق كل شيء ... كرامتي خطّ أحمر لن يقترب منه أحد .....
يتابع سعيد حديث صديقه بهدوء باحثا عن منفذ ينفذ من خلاله إلى نفسه ويهدّأ من غضبه ...
- أنت تبالغ يا رجل .... وهل تحدّث أحد في كرامتك .... ثمّ ألا ترى بأنّ كرامة الزوجين هي كرامة واحدة لا تنفصم ولا تتجزّأ ... ألم تقل لي أنت ذات مرّة إن الرجل والمرأة يُسمّى كل واحد فيهم زوجا وهو في الأصل فرد ... وهذا يعني بأنّ كل واحد منهم قد أصبح اثنين في واحد.....
ويبدو أحمد غير منتبه لما يقوله صديقه، أو أنّه غير مستعد لسماع تلك النظريّات الّتي لا تلائم حالة الغضب الّتي تعصف في داخله، فكلام الكتب هذا يجب أن يتلاءم مع مزاجنا وأحاسيسنا، ولا يجوز تطبيقه إلّا في اللحظات المناسبة لذلك ....... وأمّا الآن فهو غير صالح للاستعمال .....
-هذا يعني أن الهانم لم تكتفي بكلّ ما فعلته ..... بل تريد أن تُلقي بي في الشارع أيضاً ...... وبالعربي الفصيح " بدها ترميني برّا مثل القاروط ..... " هل نسِيَت أيّام الدلال ؟! يوم أن جعلتها أميرة زمانها ..... حتّى أصبحت كلّ صديقاتها ينظرن إليها نظرة حسد ..... ثمّ ما إن دار الزمن دورته، ووقعت في ضائقة من أمري حتّى تخلّت عنّي ... بل وباعتني بثمن بخس ... اسمع يا سعيد .. أريدك أن تتسلّم القضيّة ... سأجعلها تندم على كلّ ذلك .. وتعود إليّ طائعة .....
- فقاطعه سعيد قائلا :حاضر يا سيدي ... كما تريد .. سأستلم القضيّة، ولكن أتسمح لي بسؤال بسيط .. أوجهه إلى صديق العمر بكل صراحة ؟
- تفضّل ...
- بما أنّك قد ذكرت النسيان، أقصد التناسي من جانب زوجتك... فقل لي بصراحة ... هل نسيت أنت أيضا تلك الأيّام الّتي جعلتها فيها أميرة زمانها كما تقول ؟ وطبعا كنت أنت أمير زمانك ... إذ أنّه ما دامت هناك أميرة فلا بدّ أنها في جوار أمير .......
فيجيب أحمد بلهجة ما زالت تمتزج بشيء من الغضب
- لا... لم أنسَ ... ولن أنسى ... بل هي الّتي جحدت كلّ ذلك العمر، وأنكرت كلّ تلك السنين...
- منذ متى لم تحدّثها ؟.. أقصد هل حدثتها مرة أو هاتفتها منذ أن تركت البيت ... على الأقل من باب السؤال عن الأطفال .... مع علمي أنّك تتابع أخبارهم من بعيد ......
- أنا أحدّثها !! بعد أن تركت البيت وحدها ... وهل أتنازل لها أو أذلّ رجولتي من أجل امرأة ؟...من هي أصلا ...؟ بنت السلطان...؟ لا..لا لم احدثها ولن أفكّر في ذلك حتّى.....
يطلب سعيد فنجانيّن من القهوة ... ثمّ ينظر إلى وجه صديقه الّذي بدأ يعود إلى طبيعته محاولا البحث في رأسه عن طريقة يستطيع من خلالها اختراق ذلك الكبرياء دون أن يوقظه... فيرى أنّه من الأنسب الانتظار بضع دقائق يرتشفان فيها القهوة ....فسادت حالة من الصمت تتخلّلها أصوات روّاد المقهى الّتي تعلو وتهبط بين الحين والآخر بحسب ما تفرضه عليهم أوراق الكوتشينو.... وما إن يلاحظ سعيد بأنّ نفس صديقه قد هدأت، وأنّه قد يمكن أن يسمعه بعقله لا بأعصابه .... بادره قائلا :
- أتعلم يا أحمد ... أحيانا تصلني بعض القضايا المستعصية والمعقّدة... وبعد أن أنظر في حيثيّاتها وأتفحّصها جيّدا، أتوصّل إلى نتيجة غريبة تكاد تتكرّر في معظم القضايا.... نعم.. قضايا عويصة.. قد ملّتها أروقة المحاكم... ملفّات زاخمة بالأوراق والمستندات الّتي تنبعث منها رائحة العناد والكبرياء والتحدّي ... عجيب هذا التحدّي بين الأزواج ... حتّى مجرّد كلمة واحدة أصبحت بالنسبة إليهم أمرا كبيرا قد يصيب كرامتهم أو يُنقص من عزّتهم ...
وكان سعيد يُطيل الكلام من أجل أن ينسجم صديقه في الحديث وترتخي أعصابه، فيجعله منتبها بكلّ أحاسيسه منساقا وراء كلّ كلمة ينطق بها، ومن خلال كلّ ذلك فهو يستحثّه في نفسه بأن يبوح بتلك النتيجة الغريبة الّتي ذكرها في معرض حديثه .... وعندما أدرك سعيد أنّه قد استوفى مراده وأنّ عينيّ أحمد تنتظر سماع تلك النتيجة .... عرّج في حديثه قائلا:
- نعم... نتيجة غريبة جدّا .... فهذه القضايا ... أو قُل معظمها قد بدأت من أمور بسيطة وتافهة.... ثمّ ما زالت تستقوي وتستمدّ قوّتها من ذلك التعنّت والعناد بين الزوجين، حتى استغلظت واشتدّ ساقها، فاستعصت على الحلّ .... فذهب كلّ طرف يرمى الآخر بالاتّهامات جزافا ظانّا أنه في ساحة حرب – كما قلت أنت – وإنّه أمام عدوّ لدود وخصم عنيد...فأصبح كلّ همّه الإطاحة بخصمه والانتقام منه ... فتحوّلت المحبّة إلى حقد... والمودّة إلى بُغض ... وأكلت الكراهية ذلك العمر السعيد والأيّام الجميلة الّتي قَضَياها معا .......
وكان أحمد يلاحق كلمات صديقه الهادئة والّتي اخترقت حواجز روحه بكلّ أحاسيسه مسترسلا بأفكاره في ذلك الماضي الجميل مع زوجته، نعم .... لقد امتلأت تلك الأيّام حبّا ومودّة بينهما .... لقد عاشا سعادة حقيقيّة قد شملت حياتهما كلّها ... ثمّ اكتملت هذه السعادة بطفليْن أضاءا عليهما حياتهما الّتي تحوّلت إلى جنّة أرضيّة .... جنّة قد انحصرت في قلبه .. أو قل قلبه الّذي كَبُر ليسع هذه الجنّة الكبيرة .....
وكان سعيد يرى تلك الملامح الّتي عبّرت عن مشاعر صديقه .... فيتشاغل بارتشاف القهوة تاركا تلك الأحاسيس تستحكم في صديقه .... ثم يستطرد قائلا :
- نعم يا صديقي .... فلو نظر كلّ طرف إلى الآخر نظرة مُسالمة، لأدرك أنّه إنّما ينتقم من أقرب الناس إليه وأحبّهم إلى قلبه ونفسه .... بل وأكثر من ذلك ... فهو ينتقم من نفسه هو .... ويعذّبها في نار هو قد أشعلها في داخله ... والأغرب من كلّ ذلك هو ذلك الجفاء الشديد بين الزوجيّن ... تصوّر أن بعض القضايا خالية من أيّ حديث بين الزوجيْن ... هذا يعني أنّهما لم يتحدّثا فيما بينهما منذ بداية الخلاف .... وهذا هو أصل التعقيد، حيث يذهب كلّ طرف بما يعلمه أو يظنّه حتّى ... فيصدر الأحكام تبعا لذلك على الطرف الآخر.... فيزداد الخلاف ويشتدّ التعقيد ... وبالتالي تبتعد المسافة بين الاثنين فتستحيل العودة إلى الوراء ....
وكان أحمد قد بدت عليه علامات الرضا بما يقوله صديقه... فقاطعه قائلا في هدوء :
- وهل ... يا حضرة المحامي ... تعتبر أنّ ما فعلته هي أمر عاديّ أو مقبول ؟... التخلّي عن الزوج بمجرّد وقوعه في ضائقة ماليّة بادّعاء أنه أصبح لا يهتمّ بأمور البيت، بل وأصبح عالة على البيت وعليها، ثمّ في النهاية هجر البيت تحت حجّة تربية الأطفال والاعتناء بهم، وإنّها ليست ملزمة بمصاريف البيت ...... لِمَ كلّ هذا التشهير؟! ألا تصبر الزوجة على بعض الظروف العابرة الّتي ألمّت بزوجها ؟! ألا تقف بجانبه وتشدّ من أزره ؟! .....
- لعلّك محقّ في بعض ما تقول .... ولكنك قد نسيت أنّ زوجتك إنسانة مثابرة ومسؤولة .... فأنت نفسك كنت تشيد بها وتمدحها في الكثير من المواقف .... يا رجل ... بل إنّ زوجتي أصبحت تغار منها وتحسدها على شخصيّتها الجبّارة .... ألم تكمل مشوارها الدراسيّ... وضحّت بالكثير من أجل تحقيق طموحاتها والوصول إلى أهدافها .... ألم تقُل لي أنت ذات مرّة إنّها قد عوّضتك عمّا كان في نفسك من إرادة وشغف بالعلم والتعلّم !!
- نعم .... لطالما كانت كذلك .... تعرف تماما ما تريد، وتجاهد حتّى النهاية .....
- ثمّ يا أحمد .... أنت تحاول التقليل ممّا مررت به من ظروف ....فكلّنا وقفنا بجانبك ونصحناك بعدم المغامرة في أمور أنت بغنىً عنها .... وزوجتك كانت السبّاقة بالنصح والاهتمام ... أنسيت كم مرّة طلبت منّي أن أحاول منعك من تجارة لا تفهم فيها شيئا ، بل وكانت تقول لك دائما بأنّها لا تريد أكثر ممّا أنتما فيه، فالسعادة ليست بكثرة الأموال بل بكثرة المحبّة وانتهاز الأوقات السعيدة، فيجب أن يكون للبيت وقته... وللأطفال والزوجة أيضا حقّ من حياة الزوج .... لكنّك لم تسمع وفضّلت الأموال على كلّ شيء، حتّى أشغلتك عن بيتك وزوجتك وأطفالك ..... فأصبحت زوجتك هي الأمّ والأب في البيت، وعوّضت الأطفال عن كلّ لحظة من حقّهم عليك، ولا تنسَ أنها أكملت دراستها في خضّم تلك الظروف، مع أنّك كنت تحاول أن تُقنعها بأن تترك دراستها الجامعيّة .... فالمال كثير... ولن تحتاج هي إلى العمل أو حتّى التعب من أجل شيء.......
وكان أحمد صامتا لا ينبس بكلمة .... ونبضات قلبه توافق سعيدا كلّ كلمة يقولها ... فهو أعلم الناس بزوجته الّتي قضت معه أكثر من عقد من الزمان ... وكان صمته يطالب سعيدا بإكمال حديثه، وكأنّما أصبح ينفث فيه روحا جديدة تستبدل روحه الّتي كانت تسكنه من لحظات....
- ثمّ يا صديقي ... ألا نغفر للناس زلّاتهم وأخطائهم؟! فالأقربون أولى بالمعروف ... فأنا أجزم لك أن زوجتك لم تفكّر ولو للحظة واحدة بالانتقام منك أو إذلالك ... فإن زوجة تصبر على كلّ ذلك، وتنصح زوجها على مدار أكثر من عاميْن، ثمّ تأخذ على عاتقها أمور البيت وإعالته أكثر من عام ....ثمّ تتابع تربية أطفالها والاعتناء بهم على أحسن وجه... امرأة كهذه لا يمكن أن تفكّر بالانتقام ... فإنّ امرأة تملك قلبا كبيرا مثل هذا القلب يستحيل أن تنقلب عن أصلها، ولن يضلّها عقلها .. فإن القلب والعقل يا أحمد إذا توافقا في امرأة كانت هي السعادة بنفسها..
ويشعر أحمد بأن شيئا ثقيلا يُرفع عن قلبه ويُزاح عن نفسه .... ألم تكن هذه المرأة الّتي يريد أن يجعلها تركع تحت قدميْه ذليلة هي الّتي سهرت معه تلك الليالي الطويلة في بداية حياتهما الزوجيّة .... ألم تصبر عليه حتّى وقف على رجليْه وحقّق معظم أهدافه ... ثمّ فقط بعد ذلك بدأت بتحقيق مشوارها الدراسيّ .... ألم تفضّله على نفسها وتضحّي من وقتها في سبيل نجاحه هو... ثمّ كم مرّة رفضت واحتجّت على تبذيره للأموال حتّى وإن كان ذلك من أجلها؟
ثمّ ما الّذي يريده سعيد من كلّ هذا الكلام ؟... هل يريد ثنيه عن الطلاق من زوجته ... وماذا يكسب من كلّ ذلك ؟ ...... كلّ تلك التساؤلات أصبحت تجول في خاطر أحمد مصحوبة بصورة زوجته وابتسامتها الدائمة .... ولم يتركه سعيد يبتعد في تساؤلاته وأفكاره ... فبادره قائلا:
- ثمّ ألم تفكّر أنت يا أحمد في نفسك ؟؟ ألم تحاول مثلا بإصلاح كلّ ذلك وإعادة أعمالك الّتي تحوّلت إلى أطلال تعيش في ذاكرة الماضي ؟؟؟
- لكنّك تعلم بأنّني قد حاولت البدء بمزاولة أعمالي، لكنّ الظروف الّتي أعيشها لا تتركني وشأني، فخلافي مع زوجتي وما وصل إليه هذا الخلاف من تعقيد قد أعادني إلى الوراء ... فكلّما تقدّمت خطوة واحدة إلى الأمام .... شعرت بقوّة تجرّني إلى الخلف ...
- يقول سعيد ضاحكا : إذن عليك البدء من نقطة لا يكون قبلها خلف .......
- فيجيبه أحمد مقهقها : بل قُل إنّني تحوّلت بنفسي إلى الخلف، فأصبحت حياتي كلّها تسير إلى الخلف ....
- ولكن فعلا هناك نقطة ليس لها خلف....وأظنّك يجب أن تبحث عنها ........
- تقصد من البداية ؟! وهل تراني يا سعيد قد بدأت من الوسط ...صدّقني أنّني بدأت من البداية، لكنّني بحاجة إلى الهدوء والوقت الكافي ..... ثمّ إنّ ما فعلته هذه .. سامحها الله ..قد غلب على تفكيري فأفقدني صوابي .........
وتغلب على صوت أحمد نبرة دامعة ترطّب مقلتيْه ، ويتردّد في أعماق قلبه صدى كلمته (سامحها الله)....فيشعر بقلبه يلفظ من داخله شيئا أسودا يحمل رائحة كريهة ..
- ويستدركه سعيد قائلا : هذا تماما ما أقصده ... البدء من جديد ... من البداية ... البداية الّتي لا خلف لها ... البداية في كلّ شيء ... في حياتك وعملك وزوجتك وأطفالك .... فنحن يا صديقي لا نسير خطوة واحدة إلى الأمام إلّا ونرى ظلّها في مرآة الخلف ... فتكون هذه الخطوة محكومة بما سبق وما كان ... وهذا أمر طبيعيّ .. بل وجيّد ... لكن من يريد أن يقوم من كبوته ويستعيد قوّته فعليه أن يبدأ من البداية الّتي لا قبل لها، فلا يرى ظلّها في مرآة الخلف لأنّه هو من سيرسم ظلّها وسيحدّد وجهة مسيرها .......
-لا أدري يا سعيد ... فكلامك جميل وفي الصميم ... لا ادري ... لا أدري ....
ويدرك سعيد أن صديقه ما زال يستحكم فيه شيء من الكبرياء والأنفة، وإنه لا بدّ وأن يخلّصه من هذا الاستحكام .... فيحاول أن يستجيش فيه مشاعر الأبوّة ... فيقول :
- أتعلم أن عليّا ... ابني ...أخبرني بأنّه التقى ابنك يوسف في المدرسة بالأمس ....
- صحيح ... وعن ماذا تحدّثا ؟
- لقد أخبره يوسف بأنّه سعيد مع أمّه، وإنّها تعتني به وبأخيه أتمّ العناية ....... كذلك فهي تردّد على مسامعهم دائما بأن أباهم رجل محترم وإنّه حتما سيتغلّب على المصاعب ويضمّهم إلى أحضانه .......
وتنزل كلمات سعيد كالثلج على صدر أحمد، فتنساب برودتها لتطفئ كل ما تبقّى في داخله من غضب، ويتحرّك فيه اشتياق ينتفض في داخله بعد سبات طويل .....ثم ها هو كل شيء يتحولّ من حوله إلى ظلام لا يرى فيه شيئا.... ظلام انتشر في كلّ مكان .... أين سعيد ... إنّه لا يراه ... وبالكاد تصل إلى مسامعه بقايا كلماته الّتي تأتي من بعيد ... أين ذهبت زمجرة وهمهمة من كان في المقهى ؟!... لقد سكت كلّ شيء.... وصمت كلّ شيء ... وخرُس كل شيء .... وأحمد ما زال محدّقا بعينيه يلاحق تلك النقطة البعيدة في آخر الظلام ....ثمّ تكبر هذه النقطة وتنطلق في دائرة سريعة أشبه ما تكون بعوّامة ماء في قاع محيط، لكنّ الظلام الّذي يسودها يبدأ بالانحسار والانجلاء، فإذا بها تتحوّل إلى هالة من النور تشعّ وسط ظلام دامس، ثم ها هي تتقدّم ببطء نحو أحمد وتبدأ ملامح تلك الهالة تتشكّل ... يا لهذا الجمال ... يا لهذه الطمأنينة .... يا لهذا النور .... إنّها هي .... زوجته .... تمسك بأطراف يديها طفليْن جميليْن ... تبتسم قائلة .... نعم يا أطفالي ... أبوكم رجل محترم ... سيتغلّب على المصاعب ... ويضمّنا إلى أحضانه من جديد ....
بقلم مفلح أبو جابر