لا شكّ أن رحلة الإسراء والمعراج ستظلّ أعلى وأكبر من كلّ علوم الأرض .. ومهما حاول العقل البشريّ تفسيرها من الناحية العلمية فإنّه لن يتمكّن من الإلمام بكلّ حيثيّاتها، حتّى وإن توصلّ إلى شرح بعض ظواهرها الفيزيائيّة فستبقى هنالك جوانب أخرى ستقف أمامها كلّ علوم الأرض فاغرة أفواهها ، ومقصّرة في شرحها وفهمها .. لأنها من علم السماء الّذي لا يعلمه إلّا المولى عزّ وجل .
أمّا نحن – المؤمنين – فقد أكرمنا الله تعالى بالإيمان بكلّ ما تحدّث به محمّد – صلى الله عليه وسلم – إيمانا مطلقا لا لبس فيه ولا شكّ، ولسان حالنا يردّد مقولة الصدّيق – رضي الله عنه - " إن كان قالهافقد صدق ".
لكنّني سأتطرّق إلى رحلة المعراج بشكل خاصّ، حيث عُرج بالحبيب –صلّى الله عليه وسلّم - من المسجد الأقصى المبارك إلى السماوات العُلى، إلى سدرة المنتهى ، إلى حيث أراد الله عزّ وجلّ ، لكنّ ما ورد في رحلة المعراج أن الرسول قد التقى في السماء الأولى بسيّدنا آدم – أبي البشر – عليه السلام .
وهنالك العديد من الدلالات لهذا اللقاء بين الأب والابن .. آدم أبو البشر ومحمّد خاتم الأنبياء .. إنّه اللقاء بين الأبوّة والنبوّة ..اللقاء والشوق بين الأبوّة الأولى والنبوّة الأخيرة .. بينهما امتدّت مسيرة الأنبياء جميعا وتواصلت البعثات السماويّة إلى الأرض حاملةً معهادعوة الإيمان والتوحيد .. ثم، ما أن تنتهي الدعوة بموت صاحبها، حتّى تعود البشريّة إلى ضلالها الأوّل ضاربةً كلّ التعاليم السماويّة بعرض الحائط معلنةً تمرّدها وعدم طاعتها وتطاولها على منهج السماء، وهكذا بقي الزمن يدور دورته حتّى توقّف عند عتبة سيّد الأنام وحامل لواء الأنبياء جميعا، محمد بن عبد الله – صلّى الله عليه وسلم . فإذا بهذا النهج يتغيّر ، فيعلن القرآن : "وما أرسلناك إلّا كافّة للناس بشيرا ونذيرا ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون " ، ويصدر الإعلان السماويّ إلى الكون ومن فيه : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيّين ...." ، إذن تنتهي مسيرة الأنبياء عند محمّد – صلى الله عليه وسلّم – لتنطلق مسيرته ونبوّته هو إلى آخر الزمان لتشمل الخلائق جميعا، دون أن تستثني أحدا ، الخلائق كلّ الخلائق تدور في فلك هذه الدعوة الخالدة المباركة الّتي شاء لها المولى – عزّ وجل - أن تمتدّ إلى قيام الساعة داعية كل البشرية إلى الانضمام إليها والانزواء تحت رايتها، ولا يشكّ مؤمن بأنّ هذا الكون سيظلّ قائما عامرا ما دام هنالك من يؤمن بهذه الدعوة وبصاحبها، أوليس هذا من بركات ذلك العظيم الّذي قال يوما "ما انا إلّا ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكّة " ؟! ألم ينتصر محمد على طواغيت مكّة بالمحبّة والرحمة ..ألم تتعجّب الملائكة من رحمته بعد عودته من الطائف ، وبعد أن أمدّته السماء بقوّتها، فقال " لا يا أخي، اللهمّ أهدِ قومي فإنّهم لا يعلمون، لعلّ الله يخرج من أصلابهم من يوحدّه "، ثمّ ألا يكون هذا النبيّ على قدر دعوة السماء الّتي فتحت أبوابها مرحّبة بقدومه .. واصطفّت الملائكة في السماوات مسلّمة عليه من كل جانب .. والهديّة الأولى أن يكون الأب الأوّل هو أولّ المرحبّين والمستقبلين في السماء الأولى .. فقد طال الفراق وفاض الشوق ولم يعُد الوالد قادرا على الانتظار أكثر ... فها هو الابن يُطلّ مخترقا العالم العلويّ، فإذا بضلوع الوالد تحتضنه وعيونه تقبّل كلّ ما فيه داعية له بالنصر والثبات ..
نعم .. هي الأبوّة الأولى في لقائها مع النبوّة الأخيرة .. تلك النبوّة الّتي لن تموت ولن تنتهي لأنّها تستمدّ قوتّها من السماء ..