لم تكن مجرد امرأة بل كانت عصرًا .. ولم تكن مجرد مطربة بل كانت أيقونة للحب يجتمع حولها العشاق السعيد منهم في حبه والتعيس.. ذكية وعنيدة طوال مشوارها حتى ظن محبوها أنها لن تصمت لكنها صمتت في يوم كئيب تاركة صداها يصدح بلا توقف.
ما بين "الصب تفضحه عيونه" و"حكم علينا الهوى" زخرت رحلة أم كلثوم عشرات الأغاني التي لم تكشف فقط عن صوت نادر، وإنما كشفت أيضا عن شعراء وملحنين وعازفين، كانوا محظوظين بعملهم مع الست، ومن بقي منهم على قيد الحياة الآن أكثر حزنا في ذكرى رحيلها الـ41.
بالطبع، كلنا مدينون لمخترعي أجهزة التسجيل التي جعلت صوت الست معنا الآن، وجيل أقدم كان مدينا أكثر للست التي جعلتهم سعداء وأذنهم تستقبل صوتها "لايف".. لذلك لم يكن غريبا أن تكون جنازتها من أكبر 10 جنازات في التاريخ.
الست كانت استثنائية حقا، فيضاف على قوة صوتها الجبارة، أنها كانت حساسة تجاه ما تغنيه، تختار بدقة القصائد القديمة والحديثة التي تخلق بجمال أسلوبها حالة من الإبهار، واهتمت دائما بالبحث عن نصوص جديدة لأغانيها، فقرأت كل ما عهد به إليها الشعراء، وكانت كثيرا ما تطلب بعض التعديلات على النص الذي يعجبها لتضفي مزيدا من الجمال في الأداء، وكانت تعطي النص للملحن الذي تراه مناسبا للنص من وجهة نظرها.
كوكب الشرق امتلكت كل شيء لصنع أسطورة، الموهبة والإحساس، ولمن لا يعترف إلا بالأرقام، فيصاب بالذهول حينما يعرف أن الست وضعت نهاية عظمى وحد أقصى يصعب الوصول إليه، سيتأكد منها حينما يعرف أنه عند قياس صوت ماريا كلاس وهي أشهر مغنية أوربية فى فترة العشرينيات وجد أنه 8000 ذبذبة/ثانية، أما صوت أم كلثوم فوجد أنه 17000 ذبذبة /ثانية، وتم هذا القياس على أغنية لو تسامحينى فى العشرينيات .قدمت الست طوال مشوارها ما يقرب من 1500 أغنية، 78% منها عاطفية، و80 أغنية تدور حول موضوع فراق الأحبة.
بدايتها
أم كلثوم من مواليد محافظة الدقهلية قرية طماي الزهايرة، عام 1908 كما ثبت بالسجلات الرسمية.
كان والد أم كلثوم يعمل مؤذنا للقرية، وساعدها على حفظ العديد من الأناشيد والتواشيح الدينية وما إن بلغت العاشرة من عمرها حتى أصبحت تنشد أمام الجمهور في منزل شيخ البلد بالقرية.
بدأت شهرة أم كلثوم على يد الشيخين زكريا أحمد وأبو العلا محمد بعد أن أتيا إلى السنبلاوين لإحياء ليالي رمضان في عام 1916، وحاولا إقناع والدها بالانتقال إلى القاهرة مع ابنته الموهوبة.
سافرت أم كلثوم إلى القاهرة مع أبيها وأحيت ليلة الإسراء والمعراج بقصر عز الدين باشا وحصلت في هذا اليوم على خاتما ذهبيا من سيدة القصر و3 جنيه هو أجرها.
استقرت أم كلثوم في القاهرة عام 1921 وتنافست مع كبار المطربات في عصرها وهي منيرة المهدية.
تعرفت على الملحن أحمد رامي ومحمد القصبجي في عام 1924، وقدم لها طبيب أسنان يسمى أحمد صبري النجريدي وكان يهوي الموسيقى أولى الألحان لأم كلثوم لكنها لم تنل رضاها.
غنت كوكب الشرق عام 1928 مونولوج "إن كنت أسامح وأنسى الآسية" وحققت الإسطوانة مبيعات كبيرة في هذا الوقت.
تعرفت أم كلثوم على الموسيقار الكبير رياض السنباطي عام 1935 وكان ملحنا شابا، وكانت بداية مشوار 40 عاما من التعاون.
منع أغانيها
مع اندلاع ثورة يوليو 1952 منعت أغنيات أم كلثوم من الإذاعة المصرية وتم طردها من منصب "نقيبة الموسيقيين" باعتبارها مطربة من العهد السابق وغنائها للملك فاروق أكثر من مرة، لكنه لم يكن قرارا من مجلس قيادة الثورة بل اتخذه أحد الضباط المشرفين على الإذاعة، وألغاه الرئيس جمال عبد الناصر.
نشرت مجلة نيوز ويك عام 1956 تقريراً عن كوكب الشرق قالت فيه إنها الصوت المفضل المحبوب في جميع أنحاء الشرق الأوسط وتعد ملكة بلاد العرب.
كانت الستينات نقطة تحول كبيرة في مشوار أم كلثوم الفني وفقا لما يقوله النقاد، حيث غنت في هذا الوقت أشهر أغانيها وفي المقدمة "إنت عمري" التي قدمتها عام 1964 من ألحان الموسيقار محمد عبد الوهاب.
واقعة غريبة تعرضت لها أم كلثوم في ليلة الأربعاء 15 نوفمبر 1967 عندما كانت تغني على مسرح "الأولمبياد" في باريس "الأطلال" سقطت فجأة من علي خشبة المسرح وهي تقول "هل رأى الحب سكارى مثلنا كم بنينا من خيال حولنا" فأصر أحد السكارى الفرنسيين تقبيل قدمها.
وفاتها
قدمت أم كلثوم مثالا في الوطنية بعد نكسة 1967 بعد أن غنت كثيرا داخل وخارج مصر وتبرعت بأموالها للجيش المصري.
ظلت أم كلثوم صديقة مقربة من الرئيس السادات بعد وفاة عبد الناصر في 1970 الذي حافظ على مكانتها الفنية.
بدأت أخبار مرض أم كلثوم تتصدر عناوين الصحف ونشرات الإذاعة في 22 يناير 1975 وفي 3 من فبراير من العام نفسه اندمجت إذاعات الشرق الأوسط والبرنامج العام وصوت العرب في موجة واحدة لتعلن وفاة كوكب الشرق التي تلقاها الجماهير بالدهشة، وأقيم في لحظتها دقيقة حداد في مجلس الشعب المصري.