ما هي الأسرار التي يحملها الدم والعرق والدموع عن أجسامنا؟ لمدة طويلة من الزمن كان العلماء والأطباء يفحصون سوائل الجسم بحثاً عن أدلة عن وضعنا الصحي، لكنهم الآن يكتشفون أن سوائل أجسامنا تحتوي على معلومات وأسرار عن طبيعة عمل الجسم أكثر بكثير مما عرفوا في السابق، وما هو أكثر من ذلك، أصبح بالإمكان قيامنا بفحص سوائل أجسادنا بأنفسنا.
في الأسبوع الماضي، على سبيل المثال، غطى قسم المستقبل في بي بي سي قصة جهاز يشبه جهاز تسجيل البيانات "tricorder " الذي ظهر في فيلم "ستار تريك"، والذي يمكن بواسطته تشخيص أمراض قاتلة مثل إيبولا حتى قبل أن يعلم الشخص نفسه أنه مصاب بالمرض، وبدون الحاجة إلى أن يسافر مسافات طويلة.
وليست تلك التقنية الوحيدة التي يمكننا بواسطتها إجراء الفحوصات المعقدة خارج المستشفى، فأدوات مثل "Cue" يجري تسويقها لتمكين الناس من إجراء فحوصات الخصوبة بأنفسهم، وكذلك الإنفلونزا وأعراض الالتهاب. وتقوم مؤسسة "إكس برايز" حالياً بالإعلان عن جائزة لاكتشاف الجيل التالي من الأجهزة القادرة على تشخيص الأمراض الناتجة عن الإصابة بالفيروسات.
ومن المتوقع أن تحمل السنوات الخمس أو العشر القادمة العديد من هذه الفحوصات، إضافة إلى توظيف مصادر أخرى للمعلومات بما في ذلك فضلاتنا التي تسبب لنا الإحراج.
وتشمل كثير من هذه الأدوات على فحص الدم . يقول جاي كاربنتر، خبير في الأحياء الفموية في جامعة "كينغز كوليدج" في لندن: "في الدم يمكنك تتبع كل شيء أكلته أو يسري في جسمك".
ولكن من الممكن أن تتمكن التكنولوجيا من فحص أشياء أخرى غير الدم كما يقول جورج بريتي، من مركز مونيل للحواس الكيماوية في فيلادلفيا، والذي يعكف حالياً على تحليل شمع الأذن ومعرفة علاقته بالجسد بشكل عام. وعلى عكس الدم، يعتبر شمع الأذن مادة دهنية وهو الأمر الذي يعني أن بعض الجزيئات يمكن أن تتجمع هناك وبالتالي يسهل تتبعها أكثر من تلك الموجودة في المواد السائلة. يقول بريتي: "إذا كان لديك مجموعة من الميتابولايت التي تذوب في الدهون، فربما نستطيع أن نجدها في شمع الأذن".
على سبيل المثال، مرض " داء البول القيقبي" الجيني لا يستطيع الجسم فيه امتصاص أجزاء معينة من البروتينات، ويمكن تشخيصه عن طريق شم شمع الأذن. يقول بريتي: "رائحته تشبه شراب القبقب".
نشر بريتي مؤخراً بحثاً يكشف عن أن شمع الأذن للمنحدرين من شرق آسيا يختلف في رائحته عن المنحدرين من أوروبا أو أفريقيا أو أمريكا، كما أن رائحة أجسادهم مختلفة.
ويشير بريتي إلى نقطة مهمة فيقول: "لدينا ما يشير إلى أن هناك معلومات متعلقة بالمرض موجودة في شمع الأذن، وهناك أيضاً معلومات عن المكان الذي كنا فيه والطعام الذي تناولناه. ومازال الأمر غير محسوم بالنسبة لمسألة أن يكون شمع الأذن بديلا للدم وغيره من سوائل الجسم في التحاليل الطبية، وهو الأمر الذي يجب أن يتم دراسته".
ثم أن هناك العرق الذي استخدم لأجيال طويلة لقياس التليف الكيسي عند حديثي الولادة، وهو الذي يستخدم للمحافظة على توازن الصوديوم والكلور في العرق. ويجري الآن تطوير أغطية تنبه الرياضيين بالتغيرات التي تشير إلى قرب انهيارهم بسبب نقص السوائل أو الإرهاق الجسدي. وتتمثل إحدى إيجابيات مراقبة العرق في أنه يمكن أن تجري بدون الحاجة إلى استخدام الإبر أو باستخدام جهاز عبارة عن مجس عرق إلكتروني يمكن وضعه على الجسد تحت الملابس ويقوم ببث معلومات بطريقة لاسلكية دون الحاجة حتى إلى التفكير به.
لكن ربما كان هناك قصور فيما يمكن معرفته من خلال العرق من معلومات حول الجسد. وقد حذر جيرمي نيكلسون، عالم الكيمياء الحيوية في جامعة امبيريال كولدج بلندن من أن "العرق يحتوي على جزيئات معروفة، لكنها شديدة التنوع وهو ما يحول دون استعمالها طبياً". ويتأثر تركيب العرق أيضاً بالميكروبات التي تعيش على الجسم، في حين أن الدم يوفر صورة أكثر دقة عما يدور داخل الجسد، حيث أنه يتخلل كل نسيج من الأنسجة، ويبقي الجسد على تركيبه الأساسي منتظماً باستمرار.
حتى في قطرة الدم الواحدة، يوجد معلومات أكثر مما يتم استقاؤه في الوقت الراهن. على سبيل المثال يعكف مانفرد كايسر، من مركز ايراسموس الطبي الجامعي في هولندا، على تطوير فحوصات حمض نووي يمكنها التنبؤ بعمر الإنسان ومظهره وأصله الجغرافي من خلال فحص عينة من دمه، وهو ما يساعد الشرطة على التعرف على المشتبه بأنهم من المجرمين أو على أصحاب الجثث المشوهة.
تنطوي القوة المتوقعة والمحتملة للكائنات الدقيقة التي تعيش داخل أجسادنا على أمور مثيرة ومشوقة. يقول تيم سبيكتر، أستاذ في جامعة كينغز كوليج في لندن ومؤلف كتاب "خرافة الغذاء": "نعتقد أنه على الأقل ثلث الميتابوليت في دمنا يتم إنتاجه عن طريق ميكروباتنا".
ويتضح شيئاً فشيئاً أن الميكروبات تؤثر على صحتنا بطرق غير متوقعة حتى الآن. على سبيل المثال، مادة السيروتونين الكيماوية المسئولة عن الحالة المزاجية لا تنتجها فقط خلايا الدماغ ولكن تبين أن بعض أنواع البكتيريا تنتجها أيضاً ولذلك فهي ربما تلعب دوراً في الاكتئاب.
يعد البراز أفضل وسيلة للبحث عن تغيير البكتيريا في الجسم. يقول سبيكتر: "إذا أعطيتني عينة من حمضك النووي وعينة من برازك، فبإمكاني أن أخبرك من خلال عينة البراز بمعلومات عن جسمك تزيد عن المعلومات التي يمكن أن أحصل عليها من الحمض النووي. السبب هو لأن هناك تشابه بنسبة 99.9 في المئة بين جينات أي شخصين، إذ نشترك مع الآخرين في ما يتراوح بين 10 في المئة و20 في المئة من الميكروبات. وتكشف الأبحاث الحديثة عن أن أنواع الميكروبات في داخلنا، وبالتالي في برازنا تتأثر بما نتناوله من طعام، وبالمكان الذي نعيش فيه."
يقول سبيكتور: "بإمكاننا التعرف على الفرق بين الأوروبيين والأفارقة والجنوب أمريكيين. ولدينا معلومات قديمة عن أحد التواءم تظهر أن هناك اختلافات بين من يعيش في اسكتلندا ومن يعيش في انجلترا."
إن تحليل البراز للبحث عن ميكروبات ومواد كيماوية تفرزها لا يساعد فقط في علاج أمراض مستعصية مثل الاكتئاب والسمنة والسكري، لكن يمكن أن يزودنا أيضا بإنذار مبكر عن تدهور الحالة الصحية للطاعنين في السن وبالتالي الحاجة إلى المساعدة.
يقول سبيكتور: "بينما تنحدر صحة كبار السن، يظهر ذلك في ارتفاع كمية نوع معين من الميكروبات أو نقص في نوع آخر".
وحيث أن هذه المصادر الجديدة للمعلومات متوفرة ودقيقة، وتكلفة الفحوص تتناقص، فهناك حاجة حتمية إلى مزيد من أدوات الفحص الذاتي. يعتقد البعض أن ذلك سيضفي نوعاً من حرية الاختيار على الرعاية الصحية، ويقلل الحاجة إلى انتقال المرضى من مكان لآخر، ويساعدهم على مراقبة حالتهم الصحية بأنفسهم والعناية بها على نحو أفضل. لكنها من الممكن أيضاً أن تتسبب في قلق غير ضروري ومؤشرات غير حقيقية.
يقول كاربنتر: "يمكننا فحص الناس لأسباب كثيرة، لكن تفسير هذه الفحوصات يحتاج إلى توجيه وإرشاد من الأطباء المختصين".
وسواء للأفضل أم للأسوأ، قريباً ستكون عينة صغيرة من دمك أو عرقك أو حتى شمع أذنيك، هي كل ما هو مطلوب للكشف عن جزء كبير من تصرفاتك وصحتك، وما هو أكثر من ذلك.