الحمد لله رب العالمين والصّلاة والسّلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
عاشوراء هو اليوم العاشر من شهر الله المحرم، وقد اتفق الفقهاء على سنية صومه، ونقل ابن عبد البر الإجماع على ذلك. ففي الصحيحين عن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: ما رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يتحرى صيام يوم فضّله على غيره إلا هذا اليوم، يوم عاشوراء، وهذا الشهر (يعني شهر رمضان).
وروى البخاري عن حميد بن عبد الرحمن أنه سمع معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنهما) يوم عاشوراء على المنبر يقول: يا أهل المدينة، أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يقول: "هذا يوم عاشوراء ولم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم؛ فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر".
ويعود سبب صوم عاشوراء إلى ما رواه ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: قدم النبي (صلى الله عليه وسلم) المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: "ما هذا؟"، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجى الله بني إسرائيل من عدوهم، فصامه موسى. قال: "فأنا أحق بموسى منكم فصامه وأمر بصيامه" (رواه البخاري).
وصيام عاشوراء كان واجبا في بادئ الأمر ثم نُسخ الوجوب، وبقي الاستحباب، والذي يدلّ على انه كان واجبا ما رواه البخاري عن سلمة بن الأكوع (رضي الله عنه) قال: أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) رجلا من أسلم أن أذّن في الناس أنّ من كان أكل فليصم بقية يومه، ومن لم يكن أكل فليصم فإنّ اليوم يوم عاشوراء". وزاد مسلم في صحيحه: فكنّا بعد ذلك نصومه ونصوّم صبياننا الصغار منهم، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن (الصوف)، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار. وفي رواية: أعطيناهم اللعبة تلهيهم حتى يتمّوا صومهم.
وروى مسلم عن أبي موسى (رضي الله عنه) قال: كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه عيدا ويلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فصوموه أنتم".
وصوم يوم عاشوراء يكفر السنة التي قبله، فعن أبي قتادة رضي الله عنه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "صيام يوم عرفة؛ أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده، وصيام يوم عاشوراء؛ أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله" (رواه مسلم).
وقوله (صلى الله عليه وسلم): "أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله"؛ أي يكفر الصغائر من الذنوب لا الكبائر، لأن الكبائر تحتاج إلى توبة لتكفيرها. قال النووي في المجموع (6/382): "المذكور في الأحاديث من غفران الصغائر دون الكبائر هو مذهب أهل السنة، وأنّ الكبائر إنما تكفرها التوبة أو رحمة الله تعالى". وقال أيضا: "فإن وُجد ما يكفّره من الصغائر كفّره، وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كُتبت به حسنات ورفعت له به درجات، وذلك كصلوات الأنبياء والصالحين والصبيان وصيامهم ووضوئهم وغير ذلك من عباداتهم، وإن صادف كبيرة أو كبائر ولم يصادف صغائر رجونا أن تخفف من الكبائر".
ويستحب لمن ينوي صيام عاشوراء أن يصوم اليوم الذي قبله، وهو التاسع من محرم، فعن ابن عباس (رضي الله عنهما) قال: حين صام رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يوم عاشوراء وأمر بصيامه، قالوا: يا رسول الله، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): "فإذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع". قال: فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
وعن ابن عباس أيضا قال: قال (صلى الله عليه وسلم): "صوموا التاسع والعاشر، وخالفوا اليهود" (رواه الترمذي، وهو صحيح).
وبيّن ابن القيم مراتب صيام عاشوراء فقال: "مراتب الصوم ثلاثة: أكملها أن يُصام يوم قبله ويوم بعده، فهو الأحوط لإدراك يوم عاشوراء من بينها، وفيه مخالفة لليهود من إفراده، ويليه في الكمال صيام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث، ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصوم".
وقال الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (5/307): "وحكمة صوم يوم تاسوعاء مع عاشوراء الاحتياط له لاحتمال الغلط في أول الشهر، ولمخالفة اليهود فإنهم يصومون العاشر، والاحتراز من إفراده بالصوم، كما في يوم الجمعة، فان لم يُصم معه تاسوعاء سُنّ أن يصوم معه الحادي عشر، بل نصّ الشافعي في "الأم" والإملاء على استحباب صوم الثلاثة".
ويستحب للمرء أن يوسّع على نفسه وأهل بيته في يوم عاشوراء لقوله (صلى الله عليه وسلم): "من وسع على نفسه وأهله يوم عاشوراء وسّع الله عليه سائر سنته" (رجاله كلهم ثقات: انظر: السلسلة الصحيحة للألباني (4/366)).
وكانت قريش تعظّم عاشوراء وتصومه وتكسو فيه الكعبة حلة جديدة، روى مسلم أن عائشة (رضي الله عنها) قالت: إن قريشًا كانت تصوم عاشوراء في الجاهلية. وروى البخاري من حديث عائشة أيضا قالت:" كان عاشوراء في الجاهلية يوما تُستر فيه الكعبة".