عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته الجديدة التي يدعو بها إلى عبادة الله وحده ونبذ ما يعبده الآباء من الحجارة الصماء والآلهة العمياء انجذب إلى دعوته العديد من الشباب والشيوخ والنساء والأطفال بسبب إدراكهم أن هذه الدعوة جاءت للحفاظ على وجودهم المعنوي_أي الحفاظ على القيم والأخلاق الإنسانية_ فرأوا أن هذه المجموعة من الحجارة الصماء التي أشركوا بها مع الله هي التي تهدد هذا الوجود، وهي المسؤولة عن سبب تدهور القيم وانحطاط الأخلاق عندهم، فجعلوا يسبوا الآلهة التي يعبدها الكفار.
وهنا ثارت حمية الجاهليين حتى أتوا على أبي طالب وقالوا له:يا أبا طالب إما أن تنهى أصحاب محمد عن سب ألهتنا، وإما أن نَسُّب إلههم الذي يعبدونه في السماء.
فأنزل الله هذه الآية:"ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم". وهذا نهي واضح في سب آلهة الكفار
هذا المشهد من أعظم المشاهد الإنسانية في قرآننا العظيم، لأنه يعلمنا كيفية التعايش مع الطرف الآخر حتى عند وجود تباعد عظيم بيننا وبينه في الأفكار والمعتقدات والقيم، حتى لو عبد الحجارة من دون الله، فتباعد وجهات النظر واختلاف العقائد لا يؤدي بالضرورة إلى حصول التنافر ووقوع الملاحم بينهم، بل يمكن أن يتعايشوا مع بعضهم بتناغم واتفاق، وهذه قدرة ربانية أودعها الله في الإنسان من أجل الحفاظ على وحدة الحياة الإنسانية.
لقد استطاع إنسان القرن الواحد والعشرين أن يُروّض حيوانات مفترسة كالفهود والأسود، وَيَدخل عليها أقفاصها التي صُنعتْ من حديد، ويؤدي معها بعض الحركات البهلوانية، فانظر كيف استطاع هذا الإنسان أن يحطم الحواجز الحديدية ويفرض على حيوانات لا تعيش إلا على سحق العظام وتمزيق اللحم وشرب الدم أن تعيش معه بسلام.
والسؤال المطروح هنا لماذا عجز هذا الإنسان عن استخدام هذه القدرة العجيبة من أجل أن يعيش مع أخيه الإنسان بحب وانسجام؟!
لماذا عجز أن يحيا بسلام مع كائنات بشرية مثله، وبرغم وجود الآف من القواسم المشتركة بينهم كالآدمية واللغة والدين والقومية و.و.و, والشيء الكثير.
هل لأن كل واحد منا يرى نفسه أنه هو الأفضل في عالم الوجود؟
أم لأنه يرى أنه الأحق في إدارة البلاد والتحكم بالعباد؟
أم لأن الواحد منا يرى أن ما خلقه الله في السموات والأرض لا يَنعُم به إلا واحد منا، إما أنا وإما هو، فلماذا لا أكون أنا!!!
ألا يدل ذلك على أننا نعيش في إفلاس خلقي وفكري رهيب؟